عادت لا ترى لها، في الأرض، رجاء. وسمعت عنه. ما قالوه عن قدرته على شفاء الناس من كلّ مرض معذِّب، كان كافيًا، لتقرّر أن تتجاوز سياجًا رفعته الأجيال بينها وبينه، أو بين شعبها وشعبه، وتحمل نفسها تستجديه، لربّما تلقى منه عطفًا يردّ عن ابنتها، وعنها، عذاب الشياطين. لم تكن قد رأته من قَبْلُ. ومشت، تتبع الكلمات التي سمعتها عنه، تضرب في الأرض، وتصرخ (متّى 15: 21- 28).
أمّا يسوع، فكان ينتظرها! وجوده في "نواحي صور وصيدا" لم يكن مصادفة. أيضًا، كان هو يتبع صراخ عذابها، ويصرخ معها. كانت هي تحتاج إليه كثيرًا. ولم تكن تعرف أنّه يحتاج إليها كثيرًا! كان عذابها واحدًا من عذابين يعذّبانه. أمّا عذابه الآخر، عذابه الأوّل، عذابه الأفتك، فشعب، أتى من أجله، جعله على قناعة راسخة أن "لا يُزدرى نبيّ إلاّ في وطنه وبيته" (متّى 13: 75). وأرادها دليلاً على ودّ "البعيدين" يفضح ازدراء "القريبين". أرادها، ليعلن، على الملأ، أنّ ما من سياج يمكنه أن يفصل بينه وبين الناس، أيًّا كانوا. فالناس كلّهم يخصّونه. أيًّا كان ما يقوله المزدرون، فكلّ أقوالهم، إن لم تخضع له إلهًا للجميع وفوق الجميع، فهي آراء وابتداعات مشوَّهة. هذا قاله مرارًا وتكرارًا. ولكنّهم أبوا أن يسمعوه. كان، كلّما أرسل إليهم مَنْ ينقل إليهم أنّه إله الجميع، يُصمتونه! وأتى بنفسه، ليقوله وجهًا بوجه. وانتظرها.
كان من بعيد يراقب خطواتها العجلة. لم يجعلها تشعر بتعب السفر. أرادها. سهّل خطواتها. كان يحبّها. عاشقًا كان! عاشقًا وأكثر! فهي ابنته. وابنتها ابنته. الناس كلّهم أولاده. بعضهم أخذوا يعرفون. وكثيرون يرفضون أن يعرفوا. والأكثر من الكثيرين لمّا يعرفوه، وأرادهم أن يعرفوه. كانت هي، عنده، تمثّل الكون، أي هؤلاء الأكثر من الكثيرين الذين جاء، ليعرّفهم بنفسه. ووصلت، وصرخت إليه: "ارحمني، يا ابن داود، فإنّ ابنتي بها شيطان يعذّبها جدًّا". سمعها. لم يقل لها إنّه يعرف عذابها وأكثر!
تلاميذه، الذين كانوا معه، لم يكونوا، واقعيًّا، معه. كانوا ما زالوا أسرى الأسيجة! رآها. وسمعها. وبدأ، على طريقته، يغازلها. "فلم يجبها بكلمة". انزعج التلاميذ من شدّة صراخها. فدنوا منه، وسألوه: "اصرفها، فإنّها تصيح في إثرنا". اصرفها! لم يقل: إنّني، هنا، من أجلها. لم يقل: إنّنا على موعد! لم يقل: لا أحد يحقّ له أن يأمرني بأيّ شيء. لم يقل: إنّها طلبت رحمتي، ما عنى لي أنّها تعي أنّنا قريبان! تركهم يتكلّمون. أرادهم أن يستزيدوا من غَرف الودّ المكنون، ويتخلّصوا من سجن أفكار آلمته طويلاً. وتركها تصرخ. فهل ثمّة أحلى من أنّها تصيح في إثره؟ هل أحلى من أن تأتي من بعيد، وتعترف بأنّه المسيّا المنتظر؟ فـ"يا ابن دواد"، نداء نادرًا ما سمعه من قومه (متّى 9: 27، 12: 23). هذه المرأة سبقت الكثيرين الكثيرين. فلتصرخ ما شاءت. وليسمع الذين أغلقوا آذانهم وقلوبهم، إن أمكنهم أن يسمعوا!
ثمّ أكمل مغازلته إيّاها! كسر حاجز صمته، وقال لهم: "لم أرسل إلاّ إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل". كذا اقتضت طريقته في المغازلة: أن يبقى على صمته معها، ويطلق أنّه أتى من أجل الضالّين في شعبه! لكنّها هي زادت إصرارًا. فأتت، وسجدت له، وقالت: "أغثني، يا ربّ". كانت أمام قدميه. ونزل إليها ينقب كنزها بكلمات ودّه، قال: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين، ويرمى للكلاب". استعار من قومه ما يقنعهم (الأمم كلاب)، ليبرز جمالها المتلألئ. كلّنا لم نكن هناك. ولكنّنا كلّنا يمكننا أن نشعر بالرضى الذي لفّ وجوه الحاضرين. فالبنين هم وحدهم. والخبز خبزهم. وأمّا الكلاب، فهي تمثّلهم. ولكنّ الكلاب ليسوا جميعهم شرسين. ثمّة كلاب، وإن شرسةً، يمكن أن تُدجَّن، وتُضمّ إلى البيت! وآن أوان إعلان ضمّها.
كانت هي من موقعها تستحمّ بعطر فمه. سمعته، وزادتها القسوة المستعارة تألّقًا، وردّت بمغازلة أخرى: "نعم، يا ربّ، فإنّ الكلاب، أيضًا، تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها"! البلاغة ينطقها السُجُود. هؤلاء تكشفهم كلمات الودّ التي يستقبلونها من فوق، وتعلنهم تلاميذ قريبين قريبين. لا، أنتم، مَن تحسبون أنفسكم قريبين، لستم أقرب مِمَّن تخالونهم بعيدين! ثمّة مَنْ له بعيدًا "شراسته" في الودّ! هذه المرأة إثباتي. أنا لم أقل لكم إنّني أنتظرها. انتظرت أن تعلن لكم ذلك بلاغتُها في الحبّ. أنتم لا تعرفون أنّ "لي خرافًا أخرى ليست من هذه الحظيرة. فتلك، أيضًا، لا بدّ لي من أن أقودها. وستصغي إلى صوتي، فيكون هناك رعيّة واحدة وراع واحد" (يوحنّا 10: 16). أمّا أنا، وحدي، فـ"أعرف كلّ شيء". هذه نعجتي. وأنا الذي قدّتها إليَّ. أنا أعرفها. وأردتكم أن تتعرّفوا إلى تواضع التي أحبّتني، وتقبلوها أختًا في بيتي.
أنهى يسوع لقاء الودّ المنتظر بكلمات سجّلت ذاتها على صفحات جديدة. قال لها: "يا امرأة، عظيم إيمانك. فليكن لك كما أردت". وكانت هذه تكفي، ليقول لِمَنْ حوله (ولنا): أنِ اقرأوا، على أساسها، ألوان المغازلات الساطعة التي التقطتها هذه المرأة قَبْلَكم جميعًا. فهذه امرأة، أي ليست حيوانًا شرسًا، بل إنسان مثلكم. وإنّ إيمانها لعظيم، أي لم أرَ مثله في وطني وبيتي! وما أتت من أجله، تمّ لها كما أرادت. فابنتها، "من تلك الساعة"، غدت سليمةً معافاة. فهيّا، انحروا أسئلتكم، ولا تدعوها تنبت من جديد. وارموا أفكاركم العفنة في صناديق نفاياتكم. وإن أردتم أن تحتفظوا بأمر، فخذوا هذه المرأة الكنعانيّة. هذه قادرة على أن تزيدكم بيانًا أنّني إلهكم الذي أحبّكم، واحدًا واحدًا، أنتم وأولادكم، أحبّكم جميعًا.