علمتُ بأنّ رجلاً فرّيسيًّا قد أولم ليسوع في منزله. لم أتلقَّ دعوةً رسميّة! وعلى ذلك، حملتُ نفسي، وأخذتُ معي قارورة طيب، واقتحمتُ المكان الذي اتّكأ فيه. حسنُ اللياقات! ما لي ولحسن اللياقات! أقوال الناس! ما لي ولما سيقوله الناس! ما يهمّني، كلّ ما يهمّني، أن يتوب يسوع عليَّ (لوقا 7: 36- 50)!
عندما دخلتُ، رميتُ نفسي أمامه، أبكي، وأمسح قدميه بضفائر رأسي، وأدهنهما بالطيب الذي معي. وقفتُ من خلف، وأقمتُ طقسي بإتقان ورع! كنتُ أودّ أن يتقدّم عملي وجهي! لم أمثّل. لو كنتُ أريد التمثيل، لَمَا أتيت إلى هنا! هل أردتُ أن تخفي رائحة الطيب رائحة نجاستي؟ نعم، ولا! نعم، لكون هذا واقعي الذي قدّمتُهُ إلى قدميه. ولا، لكون يسوع يستحقّ كلّ التكريم منّي ومن سوايَ.
لم يكلّمني يسوع. لم يرفضني، ولم يكلّمني. بقيتُ في مكاني. وسمعتُهُ يقول لمضيفه "إنّ عندي شيئًا أقوله لك". وقال ذاك: "قل، يا معلّم". لم أسأل نفسي: لِمَ لم يكلّمني أنا، بل هو؟ فأنّى لامرأةٍ مثلي أن تنتظر أن يكلّمها يسوع؟ شكرت لله أنّه لم يطردني، أنّه لم يعتبر دخولي عليه تطفّلاً؟ وأخذ يسوع يخبر قصّةً عن "مَديونين كان لمُداينهما على أحدهما خمسمائة دينار (أي ما يوازي أجرة عمل فلاح خمسمائة يوم!) وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان، سامحهما كليهما". سمعتُهُ بانتباه صامت. ولمع ببالي أنّ ما قاله كان لي ولمضيفه بآن! أيضًا، لم أسأل نفسي: لِمَ أخبرنا هذه القصّة؟ شعرتُ بأنّه يردّ على أمر، قاله سمعان، لم أسمعه؟! وماذا سيقول فرّيسيّ؟ هل سوى أنّني امرأة خاطئة؟ أنا لا ألومه! وبصدق، قَبْلَ أن يختم يسوع قصّته بسؤاله مضيفه: "أيّهما يكون أكثر حبًّا له؟"، نزلتْ القصّة سلامًا عليَّ، وأدركتُ أنّني بين يدين أمينتين. كيف أدركت؟ مَن يرني، يعرف! موقعي! أجل، موقعي! فأنا كنتُ ما زلتُ عند قدميه! لم تكن لي خبرةَ مَن يرتضون الكلمة من فوق. وهناك، أمام قدميه، أُنعم عليَّ بأن أختبر! ومن أسفل أيضًا، سمعتُ سمعان يجيبه: "أظنّه ذاك الذي سامحه بالأكثر". وسمعتُ يسوع يبارك له صواب حكمته!
من موقعي، عدتُ لا أعرف من أين ينبع العطر. من القارورة. من قدميه. من فمه. غدا البيت كلّه عطرًا.
من موقعي، عدتُ لا أعرف من أين ينبع العطر. من القارورة. من قدميه. من فمه. غدا البيت كلّه عطرًا. وأخذتُ أترنّح من شدّة تضوّعه. وزاد على ترنّحي أنّني سمعتُ يسوع يكلّم سمعانَ مضيفَهُ من جديد إنّما فيما وجهه إليَّ! أنا في موقعي، عيناي إلى قدميه، عرفتُ من عطر فمه أنّ وجهه إليَّ! قال له: "أترى هذه المرأة (لا بدّ من أنّه أشار إليَّ!). أنا دخلتُ بيتك فلم تسكب عليَّ ماءً، وهذه بلّت رجليَّ بالدموع، ومسحتهما بشعر رأسها. أنت لم تقبّلني، وهذه، منذ دخلتُ، لم تكفَّ عن تقبيل قدميَّ. أنت لم تدهن رأسي بزيت، وهذه دهنت قدميَّ بالطيب". أعاد طقسي (حركةً حركة)! ارتضى طقسي! كدتُ أجنّ من الفرح! كدتُ أقول في نفسي: قتلكِ الله، يا امرأة، هل كنتِ تتصوّرين أنّك ستغدين موضوع مقابلة؟! ومَن يروي الموضوع؟ يسوع الذي أتيتُ إليه صاغرةً لا ترجين منه سوى أن يقبل توبتك! يا لهنائك! هل سمعتِهِ؟ هل تنشّقتِ عطرَ تقبُّلِهِ ما فعلتِهِ؟ ابقي في مكانك! إيّاكِ أن تبتعدي! كنتِ تحسبين أنّك قد أتيتِ، لتغسلي قدميه بعطرك. وها هو يعطّرك كلّك من أعلى رأسك حتّى أخمص قدميك! أنتِ لم يمرّ ببالك هذا النوع من الاستحمام قَبْلاً! وكان لكِ عطرُهُ حميمًا بدلاً من الماء! هل سمعتِهِ جيّدًا؟ اعتبركِ أنتِ مضيفته! غدوتِ صاحبة الدار الذي ينزل فيه! لا تقولي، بعدُ، إنّك غير مدعوّة رسميًّا! إيّاك أن تعتبري أنّك مدنّسة لا علاقة لك بموائد الأبرار! هل سمعتِ ما قاله؟ البيت بيتك! فافرحي بقبوله أن تستضيفيه في بيتك أنت!
كان وجهه ما زال يفيض عطرًا عليَّ. كدتُ أغرق في بحر عطره! وانتشلني! لا، بل زادني ترنّحًا بقوله لسمعان عنّي: "أقول لكَ إنّ خطاياها الكثيرة مغفورة لها، لأنّها أحبّت كثيرًا. والذي يُغفَر له قليل يُحِبّ قليلاً". ثمّ وجّه كلامه إليَّ بفمِهِ عينِهِ، بعطرِهِ عينِهِ. قال: "مغفورة لك خطاياك"!
لم أنتبه إلى سوى أنّني أسبح في بحر من العطر. هي دعوة إلى طعام! أعرف! تضمّ أشخاصًا عديدين! أعرف! بتُّ مدعوّة (أو صاحبة الدعوة!)! أعرف، أعرف! ولكنّني لم أنتبه. كنتُ كما لو أنّني، وحدي، أسبح، في بحر قدميه، تدفعني أمواج حوار، يجري فوقي، إلى دخول عمق لم أعهده من قَبْلُ! وردّتني إلى القاعة، التي كنّا فيها، أصواتُ بعض المتّكئين معه، كلّ المتّكئين، تهمس تستفسر: "مَن هذا الذي يغفر الخطايا أيضًا؟". لم أقدر على أن أتبيّن إن كان هذا الهمس اعتراضًا. وإن كان، فعاد لا يهمّني. أنا لم أقتحمه كُرمى للناس، بل كُرمى له وحده. الذي يقوله هو، هو ما يهمّني. هل يتصوّرون أنّني لم أكن واثقةً بأنّه يغفر الخطايا؟ الخطأة يعرفون، قَبْلَ سواهم، مَن يقدر على المغفرة! وأنا أتيتُ إليه! أنا أحبّه كثيرًا. هو مَن قال. وعلامة الحبّ الكثير غفران كثير. إنّها النتيجة التي تليق بالحبّ!
ثمّ أضاف إلى عطري عطرًا بقوله: "إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام". هل كان يردّ على الذين تهامسوا؟ بصدق، لا أعرف! ما أعرفه أنّه ارتضى إيماني، وسالمني. كلّ الذين كانوا متّكئين إلى مائدة سمعان أكلوا من طعامه. أمّا أنا، فأطعمني ذلك السِفر الذي كتب فيه أنّه يحبّني! المتّكئون، بعد أن غفر لي، كلّهم انشغلوا بالهمس. أمّا أنا، فلم أوقف انشغالي بالعطر! أتيتُ أحمل عطرًا يزول. وسكب عليَّ عطر رحمته. أتيتُ غريبةً منبوذة. وصرفني بعد أن ارتضى حبّي له وإيماني به، ليبقى عطره عليَّ عطرًا لا يزول!