20مايو

الكنيسة الصادقة

المرّة الأولى، التي يذكر فيها كاتب أعمال الرسل لفظة "الكنيسة"، كانت بعد خطيئة حننيا وسفيرة (5: 1- 11). وظرف هذا الذكر استخدمه الغيارى على الحقّ، ليردّوا على مَنْ ادّعوا أنّ ما أراده لوقا، في كتابه الثاني، هو أن يصف الكنيسة كما يحلو له أن تكون، أي أنّ ما كتبه هو رجائيّ بالكلّيّة. ويعطينا هذا الردّ أن نعرف أنّ ثمّة أشخاصًا غرقوا في معاصي التاريخ، فشكّكوا في واقع اللهب الذي أحدثه حلول الروح القدس في العالم. فكان خبر حننيا وسفيرة من الأخبار المناسبة التي دفعت أشياع الحقّ إلى أن يؤكّدوا أنّ لوقا شهد لما جرى كلّه، ليحكم عملُ روحِ اللهِ الكنيسةَ في غير جيل.

هذه المقدّمة الموجزة، على حلاوة ما تتضمّنه من دفاع عن الحقّ، تعطينا أن نقدّر ما يمكن أن تفعله المعاصي في القلب البشريّ. لستُ، في ما أقوله هنا، بموحٍ أنّنا يجب أن نوافق على أن تقود شرور الأرض أحدًا إلى التشكيك في صحّة تراثنا. حاشا! فنحن إنّما نأتي من صدق الله وطهره الظاهر في برّ التاريخ. وحسبنا أن نثق، دائمًا، بأنّ كلّ كلمة من كلمات الوحي إنّما كتبت، لنتعلّم أن نخلص لحقّ مَنْ أخلص لنا ودّه. ولكنّ هذا يجب ألاّ يمنعنا من ملاحظة خطر الخطيئة على سلامة إيمان الناس. فما من حكيم تؤهّله حكمته لأن يساوي بين الناس جميعًا. إذ إنّ بعضهم ضعيف. وإذ إنّ الخطيئة قد تدمي قلوب الضعفاء، وتهلكهم. وبعيدًا من قوّة الناس أو ضعفهم، هذا يجب أن يعني أنّ الله يريد أن يشبه جميع المنتسبين إلى كنيسته ما سجّلته كتبهم.

لا نريد أن نستغرق في خبر حننيا وسفيرة. ولكنّنا سنحاول، بإيجاز شديد، أن نتكلّم على معنى العقاب الذي نالاه، لنحسن اختيار صدق الحياة دائمًا. وهذه المحاولة تفرض أن نذكّر بأنّ هذين الزوجين (حننيا وسفيرة)، اللذين أرادا أن يركبا ركب الجماعة التي لم تبخل بشيء على الله وخدمة رسالته، باعا حقلاً يملكانه، وأخفيا قسمًا من ثمنه عن الرسل، فنالا عقاب الموت توًّا. ومن الصعب جدًّا أن نفهم بُعدًا من أهمّ أبعاد الخبر إن لم نحكم قلوبنا بأنّ ردّ بطرس الرسول على هذا الإخفاء، أي قوله إنّهما كذبا على الروح القدس، إنّما أراد منه أن يعلّمنا أنّ الله، القائم في وسط كنيسته، لا يخفى عليه أمر. لقد وضع الله على لسان رسوله عقابًا معناه أنّه حاضر أبدًا وعارف كلّيًّا، أي أنّه هو الذي يقود حياة الكنيسة التي ينتظر أن يفضّل جميع أعضائها صدقه على وجودهم كلّه.

إذًا، قوّة الخبر أنّه يدلّنا على الله الذي مَنْ لا ينتسب إلى صدقه موتًا يموت. وهذا الصدق لا ترثه مجموعة بشريّة اعتباطًا، بل إن تمثّلته تمثّلاً كلّيًّا. فالصدق تمثّل بمن لا يمكن أن يكذب البتّة (عبرانيّين 6: 18). إنّه أن نحاكي، في تفصيل حياتنا وتفاصيلها، وصفَ الرسولِ الكنيسةَ بأنّها: "عمود الحقّ وركنه" (1تيموثاوس 3: 15). فخطيئتنا مريعة إن اعتقدنا أنّ هذا الوصف يدلّ على بشر لا يحكم حياتَهم صدقُ الله. أي إن لم نعتقد أنّ الرسول أراد أن يتكلّم على الحقّ الذي ينتظر الله أن تظهره جماعتُهُ دائمًا. هذا ليس فيه انتقاص لجماعة دعوتها الدائمة أن تتمثّل بالله. هذا جوهر معنى دعوتها.

كلّ هذا مآله الواقعيّ أنّ الربّ أقام كنيسته، لتخدم صدقه في وجود لاهٍ. وهذا يجب أن يعني أنّ كلّ عضو فيها مسؤول عن هذه الخدمة. الكلّ دعوتهم واحدة وخدمتهم واحدة. وإنْ قلنا إنّ كلّ عضو مسؤول، فبالأحرى أن نعني أنّه مسؤول في الجماعة أوّلاً. فَمِنْ صدق الله أن يقول الصدقَ أحدُنا للآخر وللجماعة كلّها. أن تنتظر منّي أن أربّت على كتفيك دائمًا، وأن أوافقك على كلّ ما تقوله، وأن أغمض عينيّ عمّا تعمله، وإن كنت تجانب الصدق قولاً أو فعلاً، فأنت تنتظر أن أخالف الله بإرضائك. وليس في المسيحيّة من إرضاء للناس (غلاطية 1: 10). المسيحيّة حقّها أن نجدّ جدّنا، ليرضى عنّا الله فحسب، ويقبلنا دائمًا. ليس من قيمة لوجودنا معًا سوى إن سعى أحدنا إلى خلاص الآخر. وليس من قيمة لوعينا صدق الله إلاّ في نقل خلاصه إلى العالم.

عندما نظّمت الكنيسة قوانينها، كان قصدها، إلى جانب دفاعها عن التعليم القويم، أن تؤكّد التزامها صدق الله في هذا الوجود. فالخطيئة، التي تضرّ بِمَنْ ارتكبها وبِمَنْ معه في آنٍ واحد، تضرّ، أيضًا، بالحياة الناصعة التي حكم الله أن يجتذب بها البعيدين إلى برّ الالتزام. لم تكن الكنيسة يومًا سوى لتشهد لصدق الله في العالم. وهذا يفترض، لزامًا، أن نعتقد أنّ هذه الشهادة تعنينا بأجمعنا اليوم وغدًا. ليست دعوتنا أن نجتمع بعضنا إلى بعض على حساب الله ومحبّة صدقه. هذا تجاوز ممجوج. فمن محبّتنا لله والتزامنا صدقه، تتكوّن قلوبنا التي أمرنا بأن نفتحها لكلّ إنسان في العالم. وهذا يعني أنّ دعوتنا الواجبة أن نخاف من الله الحاضر والعارف، فنسعى إلى أن نذكّر الذين يحيون معنا بأن يؤمنوا به حاضرًا وعارفًا. أي دعوتنا أن نمنطق قلوبنا بما سنّته الكنيسة، جيلاً فجيلاً، قَبْلَ أن يقفل الله تاريخنا، ويخزينا متى جاء هو بمجده ومعه جميع الذين أخلصوا له الودّ.

الكنيسة الصادقة وديعة في أعناقنا، لتسلم أعناقنا من العقاب، ونكون لله بشرًا جددًا في عالم لا ينقذه سوى صدق الغيارى الذين يحكم حياتَهم صدقُ الكلمة (طيطس 3: 8).

- مجلّة النّور
شارك!

اضف رد

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content