مَنْ استقام في الخير، وفي سبيل الله القدّوس، كان قدوةً لغيره، أي تسنَّنَ غيرُهُ به، وفعل فعله. هذا ما اعتنى الرسول بولس بأن يطلبه من المؤمنين جميعًا، فحثّهم على أن يقتدوا به كلّهم معًا (1كورنثوس 4: 16؛ فيلبّي 3: 17، 4: 9؛ 2تسالونيكي 3: 9)، وأن يقتدوا به كما يقتدي هو بالمسيح (1كورنثوس 11: 1)، وبه وبالربّ (1تسالونيكي 1: 6)، وبالله (أفسس 5: 1)، وأن يقتدوا "بالذين بالإيمان والصبر يرثون الموعد" (عبرانيّين 6: 12)، وبرؤساء الجماعة المؤمنة الذين "يخاطبونهم بكلمة الله" (عبرانيّين 13: 7). وهذا ما جعله، أيضًا، يطلب، ولا سيّما من تلاميذه، أن يكونوا قدوةً لغيرهم من المؤمنين "بالكلام والسيرة والمحبّة والإيمان..." (1تيموثاوس 4: 12؛ طيطس 2: 7). فالالتزام الصحيح هو أن يحفظ المؤمن كلام الله، ويظهره في سلوكه وحياته كلّها.
هذا ما أكّده بولس، في توبيخه اليهود، بقوله: "فإذا كنت يهوديًّا، وتعتمد على الشريعة، وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميّز ما هو الأفضل بفضل تلقّنك الشريعة، وتوقن أنّك قائد للعميان ونور للذين في الظلام ومؤدّب للجهّال ومعلّم للبسطاء، لأنّ لك في الشريعة وجه المعرفة والحقيقة، أفتعلِّم غيرك، ولا تعلِّم نفسك؟ أتعظ بالامتناع عن السرقة، وتسرق؟ أتنهى عن الزنى، وتزني؟ أتستقبح الأصنام، وتنهب معابدها؟ أتفتخر بالشريعة، وتهين الله بمخالفتك الشريعة؟" (رومية 2: 17- 23). وهذا، بالطبع، يدين كلّ جهل وكسل. فَمَنْ لا يعرف ما هي مشيئة الله الكاملة، لا عذرَ له. وَمَنْ يعرف، ولا يسلك، لا يقلّ شرّه عن الجاهل والمتكاسل.
معنى ذلك أنّ مَنْ التزم، لا سيّما مَنْ التزم، يقرأ الناس على وجهه صدق التزامه، أو هذا ما يجب. فالالتزام لا يخفى. لأنّ "المسيح الذي هو حياتنا" (كولوسّي 3: 4)، أي الذي أحيانا في معموديّتنا ويحيينا في مشاركتنا في الأسرار جملةً، ولا سيّما في القدّاس الإلهيّ، يطلب من المؤمنين الملتزمين أن يظهروا حياة الله، التي سكنتهم بوفرة، في كلّ قول وتصرّف، حتّى يستحقّوا مجده. فالإنسان المؤمن لا يعبد الله ضمن جدران كنيسته حصرًا. العبادة الحقّ تطلب، إلى جانب ذلك، أن نبيّنها، في الدنيا، للناس جميعًا، أي للذين يخصّوننا أهلاً وعائلةً وأصدقاء أوّلاً، وتاليًا للذين وضعهم الله على طريقنا ونشاركهم في المواطنيّة، وللعالم كلّه. ولا نبيّن القداسة، لنظهر نحن، بل ليظهر الله الذي ننتمي إليه، وينقاد إليه الذين أبهرهم نوره، واستحلوا جماله.
هذه هي القدوة الحقّ. والقدوة تُطلب من كلّ مسؤول في الجماعة المؤمنة أوّلاً. "كونوا قدوةً للقطيع" (1بطرس 5: 3). المؤمن "العاديّ"، وهو مسؤول طبعًا، إذا جار عن طريق الحقّ، ربّما لا يجرّ وراءه غيره، أو ربّما يؤذي القلّة. أمّا مَنْ كُلِّفوا مسؤوليّةً في الجماعة، إذا سها أحدهم أو شرد أو ضلّ، فسيكثر الساهون والشاردون والضالّون. وأقلّه، سيستسهل الكثيرون الخطيئة. وقد يُنكر الله بسببهم، أو يشتم (رومية 2: 24)! فَمَنْ كُلِّف إنجيلَ اللهِ وتوضيحَ معانيه، إن لم يطلب الطاعة من نفسه أوّلاً، لا يمكن أن يصدق نصحه. أن يسمعنا الناس نقرأ كلام الله، ونتقن تفسير مقتضياته، أمر لا يعني، (على أهمّيّة ذلك)، عند الله كلّ شيء. الكلّ هو في الطاعة المستقاة من التعليم القويم. هذا ما قاله الرسول لتلميذه تيموثاوس، بعد أن أمره بأن يكون "قدوةً للمؤمنين"، إذ حضّه بقوله: "انصرف إلى القراءة والوعظ والتعليم"، إلى أن قال له: "انتبه لنفسك ولتعليمك، وواظب على ذلك. فإنّك، إذا فعلت، خلّصت نفسك والذين يستمعون إليك" (الرسالة الأولى 4: 12- 16). فالانتباه المطلوب يتمّ بتوافق التعليم والحياة، أي بطاعة الله في تفصيل الحياة وتفاصيلها. ومن متطلّبات القدوة، أيضًا، أن يسهر مَنْ كُلِّف السهر على قطيعه، حتّى لا يتوه القطيع، أو يستميله الغرباء، ويسرقوا بعضه. فالقدوة تفترض حميّةً ورعايةً، أي غيرةً على شعب الله وحمايةً وقيادةً، ليتأصّل المؤمنون في محبّة يسوع ربّنا، ويثبتوا، وينموا، ويثمروا. فـ"كلام الله حيّ ناجح، أمضى من كلّ سيف ذي حدّين، ينفذ إلى ما بين النفس والروح، وما بين الأوصال والمخاخ، وبوسعه أن يحكم على خواطر القلب وأفكاره، وما من خَلْقٍ يَخفى عليه، بل كلّ شيء عار مكشوف لعينيه، وله يجب علينا أن نؤدّي الحساب" (عبرانيّين 4: 12 و13). وهذا لا يوافقه أن تقتصر خدمتنا للكلمة على تردادها، أو تفسيرها، أو توزيعها وعظًا فحسب. فالمطلوب، دائمًا، أن نلحقها، ونتبع جريها، لتنفذ، وتثبت.
لقد أكّد كتابنا أنّ السلوك هو تعليم أيضًا. يقول الرسول للنساء اللواتي لم يظهر أزواجهن بعدُ طاعةً لكلمة الله: "وكذلك أنتنّ أيّتها النساء، اخضعن لأزواجكنّ، حتّى إذا كان فيهم مَنْ يعرضون عن كلمة الله، استمالتهم سيرة نسائهم لما يشاهدون في سيرتكنّ من عفّة ووقار" (1بطرس 3: 1 و2). وهذا، في الواقع، ما تفترضه القدوة، وما يؤكّد بلاغتها.
أن نقتدي بالله وقدّيسيه، لهو أن نقتدي، أيضًا، بالذين حافظوا، في حياتهم، على برّ كلمته الحيّة بإخلاص كلّيّ. فالبرّ يتشدّد بالبرّ. والخيانة لا تُسحق من دون شهادة صحيحة ظاهرة. فإذا كان كثير من الناس قد "عاشوا حياةً باطلةً، وتعلَّقوا بالزَيْف، وحالفوا الشرّ، وأقاموا قصورًا عنكبوتيّةً نسجها لهم خيالُ الشيطان" (المطران جورج (خضر)، الحركة ضياءً ودعوةً، صفحة 83)، إنقاذهم يحتاج إلى مَنْ يكون قدوةً لهم في كلّ برّ، أي إلى مَنْ يكون، بنعمة الروح القدس، مرجعًا ومثالاً، حتّى يرضى الله، ويظهر نصره في العالم.