كتب أسقف أنطاكيّ معاصر: "الفقراء جرحُهُ" (لو حكيت مسرى الطفولة، صفحة 17). وبهذا الضمير المتّصل، جعل ما كتبه يخصّه ظاهريًّا. أمّا واقعيًّا، فجعل نفسه في فم الله. فالفقراء جرح الله.
من طيّبات وعي "النهضة" أنّها لفتت إلى محبّة "الإخوة الصغار"، أي أعادت اعتبار كون الفقراء"سادتنا"، كما وصفهم أسقف إسكندرانيّ قديم. لن نستعرض، في هذه العجالة، ما حقّقه التيّار النهضويّ من إنجازات طيّبة تتعلّق بخدمة الفقراء في هذا المدى الأنطاكيّ. خدمة الفقراء، أي المساكين من غير نوع، ولا سيّما منهم، بلغة اليوم، المشرّدين والذين يستوطنون العراء. فهذا، حقًّا إلهيًّا مُنعنا من أن نراه (متّى 6: 3)، يجعل فعل الخير عملاً يفوق الطبيعة، أي يبعده عن كونه واجبًا من واجبات الطاعة لله، له المجد. ولكنّنا نودّ أن نذكّر أنفسنا بأنّ مقتضيات حياتنا في المسيح لا يوافقها أن نكتفي بوضعها في أطر عامّة. بلى، لا بدّ من أطر على غير صعيد، صعيد العبادة وصعيد العلم وخدمة المحبّة، وغيرها. لكنّ هذه كلّها وجدت، لنعزّز أنّ كلّ ما نعمله معًا إنّما تقع مسؤوليّـته علينا جميعًا، جماعاتٍ وأفرادًا.
هذا إثباته يدفعنا إلى أن نذكّر أنفسنا بأنّ كلّ مقتضى، تقتضيه المسيحيّة، يحوي الكلّ. إذا أخذنا "خدمة الفقراء" مثلاً، فهذه لا يمكن أن نتمّمها، كما يليق، إن لم نقبل الكنيسة كما تقدّم ذاتها في أسرارها وعلمها وصلواتها وأصوامها وكلّ ما تغني به قلوبنا. بمعنى أنّ التزامنا الكنسيّ، القائم على وعي طلب الوحدة بالله في وجوهه كافّة، هو الذي يجعلنا نفهم حقًّا معنى أنّ الربّ وحّد ذاته بفقراء الأرض، لنحبّه فيهم. ليست الكنيسة جمعيّةً خيريّةً (على تقديرنا لعمل أيّ خير في الأرض)، بل جماعة الله التي تأبى، ممّا تأبى، أن يموت مسيح الله جوعًا وعريًا وبردًا وألمًا...، أي الجماعة التي تؤمن بأنّ إلهنا الحيّ، الذي رُفِعَ إلى السماء، باقٍ معنا بوجوه يمدّ حياته إلينا بها (الكلمة والقرابين والإخوة...). ولا أزيد شيئًا على الوعي النهضويّ إن قلت إنّ هذه كلّها حرّة من الحصر. وحرّة من الحصر، تعني أنّها من صميم التزامنا اليوميّ، كما الإفخارستيّا وقراءة الكلمة والصلاة وحياة التوبة وما إليها، أي لا تتعلّق بمواسم حصرًا (الصوم الكبير المقدّس، مثلاً). ولا أزيد عليه شيئًا إن قلت، تاليًا، إنّ خير هدف عمليّ، دعتنا النهضة إلى أن نطمح إليه فيما نعتني بخدمة "إخوتنا الصغار"، أن نريد ما أراده رسول الأمم بقوله: "ليس المراد أن يكون الآخرون في يسر، وتكونوا أنتم في عسر، بل المراد هو المساواة" (2كورنثوس 8: 13).
لنتبسّط قليلاً. نحن جماعة التيّار النهضويّ اعتدنا أن يقدّم كلّ عضو فينا إلى فرقته اشتراكًا ماليًّا (أسبوعيًّا هنا وشهريًّا هناك)، وتاليًا أن ندعم، أحرارًا أو في أنشطة ظرفيّة (عشاء خيريّ، مثلاً)، مشاريع أوجدناها (مشروع التبنّي المدرسيّ، أو أيّ مشروع آخر نراه يبني). غير أنّ هذا، الذي نريد منه خدمة "الإخوة الصغار" أوّلاً، إنّما دعينا إلى أن نعمله، ليعمق طلبنا نزول المسيح، "الذي افتقر لأجلنا"، في قلب كلّ منّا وضميره دائمًا (كما تنزل كلمته الإلهيّة وقرابينه المقدّسة دائمًا). ولكوننا أُعطينا أنّ كلّ ما خرج من فم الربّ يخصّنا، أبينا أن يكون العطاء شأن المقتدرين بيننا فحسب. أبينا أن يكون بيننا يقظون في مكان وغافلون في مكان آخر. أبينا، على كون معظمنا فقراء نجاهد، لنحصل على قوتنا. فالسؤال، الذي وصل إلينا، أي: "ماذا فعلتَ لأخيك؟"، نعرف أنّ الربّ سيطرحه على كلٍّ منّا شخصيًّا. ولا نحتمل أن نسلك كما لو أنّ هذا السؤال لا يعنينا. ورئف الله بأن نوّرنا بتأكيده أنّ جميع الناس إخوتنا. فالمحبّة، التي بسطها إنجيل الله، لا تقبل محاباة. وهذا لا يعيبه أن نخصّص إخوتنا في الإيمان أوّلاً (غلاطية 6: 10) في كلّ ما ينفعهم، ويبنيهم، ولا سيما أن نرفض أن يكون واحد بيننا عاطلاً من العمل (أو مشرّدًا أو...). فالمساعدة من طبيعتها أن نسعى إلى أن يجتهد كلّ منّا في تحصيل زاده، ليقدر، أيضًا، على أن يدعم عمل المحبّة، فتحصل "المساواة" (2كورنثوس 8: 14). ولستُ بمعلٍّ أمرًا على ما ذكرته إن قلت إنّ قوّة النهضة قائمة في صوتها النبويّ. فالنهضة أمرتنا، فيما ننادي أنفسنا إلى طاعة عمل الخير، بأن نطلق صوتنا عاليًا. إن كان معظمنا فقراء، فهذا لا يشرّع أن يأكل الصمت ألسنتنا. نحن، بلا صوت يذكّر، نخسر كلّ شيء. أذكر أنّ أحد الآباء النسّاك (سها عنّي اسمه) حار في أمر وصيّة خدمة الفقراء. فقال للربّ: "كيف تريدني أن أكون فقيرًا وأن أخدم فقراء الأرض بآنٍ؟ أنت تعرف أن ليس لي فضّة ولا ذهب، فأنّى لي أن أطيع هذه الوصيّة؟". ثمّ استدرك هو نفسه، أو بوحيٍ مِمَّنْ يخاطبه، أنّ خدمة الفقراء يمكن أن يحقّقها في حثّ المقتدرين في الأرض على أن ينقذوا حياتهم بطاعة الوصيّة. أُفهم أنّ التجاوز يكون رهيبًا في الصمت.
من دواعي الوعي أن ننادي بما استلمناه قويمًا. أن نبقى ننادي أنفسنا وكلّ مَنْ يحيون معنا وإلينا. فالله لا يليق بوعينا أن يبقى مجروحًا. جرحه جرحنا، أو هذا ما يجب أن يكون. لقد ناقشت الحركة أوراقًا دعت فيها إلى أن يكون المؤمنون شفّافين في غير أمر، ولا سيّما في كلّ مال خاصّ. هذا ليس موقع بحثه هنا. يكفي أن نجتهد في ما يُسهم في تضميد الجرح. فهؤلاء الإخوة، الذين دلّلهم ربّهم بوصفه إيّاهم بأنّهم "إخوته الصغار"، ينتظرون دلالاً، لنرجو أن نستحقّ أن "يقبلونا في المظالّ الأبديّة" (لوقا 16: 9).