لا يفترض ضرب الآخرين أن يستعمل الواحد يديه حصرًا. فالإنسان قد يضرب سواه بمئة أسلوب وأسلوب. ولربّما ما يخرج من الفم ضربًا هو أقوى أنواع الضرب على الإطلاق.
مِنْ مقتضيات الكلام مع الآخرين أن نعرف مَنْ نكلّمه وعيَهُ وقدرتَهُ على استيعاب ما نقوله له. فليس كلّ الناس سواسية. وأنت، في مواجهتهم، ملزَمٌ أن تعرف مَنْ تخاطبه. وإن قلتُ أنت، فأقصد أنا وأنت، ولا أستثني أن يكون أحدنا مِمَّنْ كلّفوا خدمةً في كنيسة الله. فَمِنَ الخدّام مَنْ يضرب غيره بما يفترض هو أنّ غيره يجب أن يعرفه. وهذا ضرب لا مثيل لألمه. إنّه مؤلم كثيرًا لكونه يجعل الله، وما يريده الله، عصًا في يد بشر.
هذا أقوله، وحسبي أنّ معظمنا يعرف أن ليست كلُّ غيرةٍ على الله يمكن اعتبارها غيرةً "على حسب المعرفة" (رومية 10: 12). لقد غار إيليّا النبيّ على الله ربّ الجنود، وقادته غيرته إلى أن يُنزل أنبياء البعل إلى نهر قيشون، ويذبحهم كلّهم. وهذا التصرّف حَسِبَهُ آباء كبار، في كنيستنا، مخالفةً عظمى، مخالفةً دفعت إيليّا إلى أن يتوب عنها توبةً عميقةً (من مظاهرها أنّه سار أربعين يومًا من دون أن يذوق أيّ طعام)، وجعلت الله يكلّف نبيًّا آخر بدلاً منه (أنظر: سيرة النبيّ إيليّا في 1ملوك 17- 2ملوك 1 و2). فالغيرة على الله شرطها الراهن أن نأخذ بإخذه، أي أن ننتهج نهجه في علاقتنا بالآخرين، ولا سيّما أولئك الذين نعتني بأن نقدّمه لهم. فالله لا يقبل أن نقود أحدًا إليه كرهًا، ولا أن نتسلّط على أحد باسمه. فإن كان الله قد أوجد الناس أحرارًا، فيعني أنّ خدمته تلزمنا أن نحترم حرّيّة مَنْ برأهم هو أحرارًا.
السؤال، الذي يطرح ذاته، هو: ما نهجُ الله الذي يعطينا أن نحسن قيادة الآخرين إليه؟
إذا قرأنا العهد الجديد برمّته، فلن نجد حرفًا يوحي بأنّ الربّ يسوع قد ضرب إنسانًا واحدًا، ليردّه إلى الحقّ. بلى، لقد وبّخ المنافقين والمستكبرين وكلّ مَنْ يرائي في اتّباع الله. ولكنّه لم يفعل ذلك انتقامًا من أحد، بل من أجل خلاص مَنْ وبّخهم، وخلاصنا نحن أيضًا، لنحسن الابتعاد عن النفاق والاستكبار وكلّ مراءاة قاتلة. ولربّما خير ما يجب أن يأخذنا، في اتّباعنا آثار الربّ، هو ما قاله رسول الأمم عن الضربات الظالمة التي تحمّلها هو نفسُهُ بسبب خدمته ربّ المجد (أنظر مثلاً: 2كورنثوس 6: 5، 11: 23 و25). ولا نرى أنّ الكبار في الروح يعوزهم أن يفسّر لهم أحد لِمَ احتمل بولس أن يُضرب. فهؤلاء يعرفون أنّه يتبع إلهًا لم يضرب أحدًا، بل قَبِلَ كلّ أنواع الضرب ظلمًا (أنظر مثلاً: متّى 27: 30؛ يوحنّا 18: 22 و23). أن ننتهج نهج الربّ هو أن نقتدي به وبما فعله رسولُهُ قدوةً به. ومن دون أن يفهم أحد أنّنا نؤثر مسيحيّةً هشّةً، يجب أن نؤكّد، تأكيدًا صارخًا، أنّ الضرب المشروع هو أن يضرب الإنسان خطاياه الشخصيّة بكلمة الله ومظاهر برّه، ليتوب إلى ربّه توبةً نصوحًا. فهناك، دائمًا، لغط قد يتسرّب إلى سلوك المستتيبين، وهو أن يعاملوا الآخرين وفق القسوة التي قد يعاملون أنفسهم بها. وهذا خطأ يوحي أنّ المؤمن لا يعرف أنّ دعوته، فيما يقسو على نفسه، أن يلطف بالآخرين. فالمؤمن شأنه أن يكون وديعًا، ليس مع مَنْ يراهم منطبعين على اللطف فحسب، بل مع الكلّ، ولا سيّما مَنْ يحسبهم على خطأ، أو كانوا على خطأ فعلاً.
معيار كلّ مسلك صحيح أن نعي أنّ المسيحيّة مذهب لطف كامل. وهذا، على صعوبته أحيانًا، معيار ملزم. إذ لا يحوز أن يعيق تنفيذَ حقّ المسيحيّة ما نحسبه صعوبةً، أو كان صعبًا علينا فعلاً. فمتى رأينا أنّ مقتضى المسيحيّة صعب، وآثرنا مقتضى آخر نخاله يناسبنا، نكون، من حيث ندري أو لا ندري، أشخاصًا يعتقدون أنّ الله قائم في ما يقولونه ويفعلونه. وهذا سوء لا يليق بنا أن ننسبه إلى الله. هذا سوء يجعل الله على مقاسنا. أو، بكلام آخر، يجعله مقيّدًا بنا وبأسلوبنا. والله، الذي يدعونا إلى أن نكون على "قياس قامة ملء مسيحه" (أفسس 4: 13)، حرّ حتّى من الذين حكموا حياتهم به وبما يرضيه.
دائمًا، يجب أن نعتقد أنّ الله حرّ منّا. فالمؤمن الحقيقيّ، مهما كان على حقّ، لا يقيّد الله به، بل يقيّد نفسه بالله. والله، الذي يريدنا أن نهلك أنفسنا من أجله ومن إنجيله (مرقس 8: 35)، أي الذي يريدنا أن نبيّن حبًّا عميقًا له وفي خدمة كلمته، يلزم مَنْ يؤمنون به حقًّا أن يلزموا أنفسهم بما يرضيه، وأن يعرضوا، تاليًا، مشيئته عرضًا. لا تحتمل خدمة الكلمة أن نجرّ الناس إلى الله غصبًا عن إرادتهم، ولا تحتمل لا سيّما أيّ تهويل. فليس من أسلوبنا أن نهوّل، فنمطر على مَنْ نحسبهم مخالفين "نارًا وكبريتًا". هذا لون الغرباء الذين شأنهم أن يستغلّوا دينونة الله بترفّع يشعرك بأنّهم يعتقدون أنّهم قد تجاوزوها. نحن لم يعطَ لنا أن نقول لأحد إمّا أن تسمع ما نقوله لك، أو إنّ الله سوف يحكم عليك حكمًا مؤبّدًا. هذا استخفاف بحقّ الله الذي دفع الدينونة إلى ابنه وحده (يوحنّا 5: 22). وهذا يهمل كون العهد الجديد بيّن أنّ أصدقاء الله المقرّبين، الذين سوف يسبقوننا إلى ملكوته، هم الزناة والعشّارون (متّى 21: 31).
هل هذا كلّه يعني أنّنا نؤثر مسيحيّةً مائعةً لا قرار فيها ولا جدّيّة؟ لعمري، لا. فعندما قلنا إنّ المسيحيّة مذهب لطف، كنّا نريد أنّ فضائل الله هي التي تقود الناس إليه. ضرب الآخرين، مهما برّرناه، إن أنجب، فلا ينجب سوى عبيد. أمّا الفضائل، فقاعدة كلّ غيرة نبتغي فيها مدّ خلاص الله في العالم.
- مجلّة النّور، العدد الثالث، ٢٠٠٩