ليست الصلاة ترداد كلمات باردة. لكنّها تنبع من معين محبّة الله التي "لنا في المسيح يسوع". وهي لم تكن ممكنةً، لو لم يتنازل الربّ، ويكشف نفسه، ويفدنا، ويعطنا كلّ نعمة تقودنا إليه، لنكلّمه، بثقة ودفء، ونكلّمه دائمًا.
الآية المختارة، التي تحثّنا على ولوج معترك الصلاة الدائمة، هي قولة بولس: "لا تكفّوا عن الصلاة" (1تسالونيكي 5: 17). وهذه أتى بها، توًّا، بعد أن قال: "افرحوا دائمًا" (الآية الـ16). والثابت أنّ هدفه الأوّل، من هاتين الآيتين، أن يذكّر المؤمنين بأنّ الفرح، الذي هو عطيّة من عطايا الروح القدس (1تسالونيكي 1: 6؛ انظر أيضًا: أعمال الرسل 13: 52؛ رومية 14: 17؛ غلاطية 5: 22)، ورجاء المؤمنين الأخير (متّى 25: 21 و23)، لا يثبت، في القلب، إن لم يداوموا، في كلّ وقت، على الصلاة. وهدفه الثاني أن يؤكّد أنّ الفرح بالربّ هو غاية كلّ صلاة.
أن نداوم على الصلاة، أو أن نصلّي بلا ملل (لوقا 2: 37، 18: 1- 8؛ رومية 12: 12)، هو أن نعرف أنّ الله حاضر معنا دائمًا، وأنّه يحبّنا، ويريدنا أن نلتفت إليه، ونكلّمه بودّ وثقة. والصلاة الدائمة تفترض، أوّلاً، أن نشارك، باستمرار، في الخدمة الإلهيّة (القدّاس الإلهيّ) في كلّ أحد وعيد، وفي كلّ صلاة جماعيّة. وتفترض، تاليًا، أن نحافظ على صلواتنا اليوميّة. ومنها الصلوات الثلاث التي شاع أن يلتزمها بعض المؤمنين، وهي: صلاة السَحريّة (التي تقام صباحًا)، صلاة الغروب (التي تقام مساءً بعد العودة من العمل أو المدرسة والجامعة)، وصلاة النوم (قَبْلَ النوم). وهذه الصلوات اليوميّة قاعدة كلّ صلاة. وهي ملزمة، حتّى لا نخسر فرحنا، وحتّى لا نستسهل الكلام مع الله، ونختصره بعبارات قليلة نتمتمها صباح مساء، أو نكتفي برسم إشارة الصليب بعد أن نستيقظ، أو نخرج من منازلنا.
إذًا، لا يمكننا أن نكمّل ما يطلبه الرسول من دون قاعدة يوميّة. فالقاعدة اليوميّة هي التي تجعلنا نعي أنّ إلهنا الذي نقصد مخاطبته، دائمًا، هو إله الجماعة المطيعة التي يوحّدها حبّه في كلّ لقاء يجمعها، والتي يبقى أعضاؤها على وعيهم وحبّهم ودعائهم، ولو افترقوا بعد لقاء شكور. ولا يمكننا، تاليًا، أن نتكلّم على صلاة نتقرّب فيها من الله من دون أن نبيّن اقتناعًا حقيقيًّا بحياة فاضلة. فـ"الصلاة ابنة للوداعة وعدم الغضب" (افاغريوس البنطيّ). و"مَنْ يصلِّ وهو حاقد، يشبه الزارع في البحر على أمل الحصاد" (إسحق السوريّ). وهذا إنّما يعني أنّ مَنْ يصرف حياته وأشواقه في محبّة الأرض لا يقدر على أن يطلب "الأمور التي في العلى حيث المسيح قد جلس عن يمين الله" (كولوسّي 3: 1)، أي الحياة الجديدة. فالصلاة الحقيقيّة الطاهرة هي التي تناديها حياة طاهرة، والتي تكمّلها حياة طاهرة جديرة بالله الذي يدعونا إلى "ملكوته ومجده" (1تسالونيكي 2: 12). ومن مقتضيات الصلاة البارّة أن نتوب إلى الله بعمق. "لا تنهِ صلاتك قَبْلَ أن ترى لهيب التوبة وماء الدموع قد انقطعا عنك من عند الله، فلعلّك لا تصادف، في كلّ حياتك، وقتًا موافقًا كهذا لمغفرة خطاياك" (يوحنّا السلّميّ). ومن مقتضياتها ألاّ نفعل أمرًا يغضب الربّ. "فإنّ الربّ لم يدعنا إلى النجاسة، بل إلى القداسة" (1تسالونيكي 4: 7)، وإلى أن نحبّ الإخوة (1تسالونيكي 4: 19)، ونشدّد بعضنا بعضًا، ويبني أحدنا الآخر (1تسالونيكي 5: 11)، ونساعد الضعفاء، و"نصبر على جميع الناس" (1تسالونيكي 5: 14).
والصلاة الدائمة يتعلَّمها المؤمن بالممارسة. "صلِّ، والصلاة ذاتها تعلِّمك أن تصلّي" (افاغريوس البنطيّ). أن نصلّي يومًا، وننقطع عن الصلاة أيّامًا، وأحيانًا أشهرًا، لا يعني أنّنا نصلّي. فالصلاة منطلقها المحبّة، وهدفها المحبّة. فَمَنْ يعِ أنّ الله يحبّه، ويبادله المحبّة، لا يلقْ به أن يهمل مخاطبته. لأنّه، إن أهمل الصلاة أو استخفّ بها، وقع، لا محالة، "أسير عصيان تلو عصيان" (مرقس الناسك). نجاته رهن بصلاته الحارّة التي يرفعها، دائمًا، بجهد لا يخفّفه، أو يقطعه، أيّ شيء. ولا تكون الصلاة حقيقيّةً، أو كاملةً، إلاّ إذا استمرّت بعد انتهاء الصلاة. وهذا يعني أنّ الصلاة الدائمة هي التي يكملها الروح القدس بعد الصمت. "وكذلك فإنّ الروح، أيضًا، يأتي لنجدة ضعفنا، لأنّنا لا نحسن الصلاة كما يجب، لكنّ الروح نفسه يشفع لنا بأنّات لا توصف" (رومية 8: 26). فالصلاة، حتّى تليق بمسمع الله الآب، يحملها الروح، ويردّدها بما يفوق قدرة بشر. لأجل ذلك، نفتتح كلّ صلاة باستدعاء الروح القدس. وإنّما نستدعيه، ليساعدنا، ويرشدنا، ويحمل صلاتنا، ويصلّي معنا وفينا.
هذا ما اعتنى آباؤنا بأن يعملوه، ويعلّموه. ووجدوا خير سبيل لتحقيقه أن تبقى قلوبنا مشغولةً بذكر اسم الربّ يسوع. ولهم، في هذا الذكر، طرائق وأصول غايتُها طرًّا شخصُ ابن الله وطلب رحمته والاتّحاد به. والرحمة أن يلدنا الآب بابنه، ويجدّدنا دائمًا. أن تنادي الربّ في قلبك باسمه، هو أن تتحرّك بالروح. "ولا يستطيع أحد أن يقول يسوع ربّ إلاّ بإلهام الروح القدس" (1كورنثوس 12: 3). وأن تعتني على عدد دقّات قلبك أن توافق هذا الذكر، حتّى تقدر على أن تردّد مع الرسول: "فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاطية 2: 20).
الصلاة الدائمة هي حياة المؤمنين الذين حلا لهم أن يرتشفوا من جمال الملكوت الآتي "الآن وهنا".