"لا شيء أفضل من السلام، لأنّه يجرّد أعداءنا المنظورين وغير المنظورين من كلّ أسلحتهم"
(القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ)
"السلام في الكنيسة" عنوان يدفعنا الكلام فيه إلى أن نستوطن الخدمة الإلهيّة. فكلمة الرسول، التي تظلّل العهد الجديد، أي "المسيح سلامنا" (أفسس 2: 14)، تمدّ لنا الخدمةُ ثمارَها الشهيّة في أبعاد ثلاثة: 1) الربّ شخصًا هو سلامنا. 2) وهو معطي السلام. 3) ويريدنا خدّام سلامه في الكنيسة والعالم.
سأحاول أن أستعرض هذه الأبعاد استنادًا إلى موقعين في الخدمة. أوّلهما ما نسمّيه "الطلبة السلاميّة الكبرى". وثانيهما الطلبة الصغيرة التي نقولها في نهايتها، أي "لنخرج بسلام".
أوّل طلبات الطلبة السلاميّة الكبرى، أي "بسلام إلى الربّ نطلب"، تُظهر ما تتضمّنه فيما تمسك بيدنا، لتقودنا إلى ما يتلوها، أي إلى تبيان أنّ الربّ، شخصًا، هو الذي سالمنا بينما كنّا بعيدين وخصومًا وأعداء، وسنَّ لنا أن نحيا في سلام كلّيّ ودائم، لنخدم سلامه في الكنيسة والعالم. وهذا أساسٌ في مطلع الخدمة التي تقوم كلّها على عطايا الله، وتجعل الربّ أيقونة ما يطلبه منّا، أو نريده أن يحقّقه فينا. وإذا قلنا بعدها: "من أجل السلام الذي من العلى وخلاص نفوسنا، إلى الربّ نطلب"، لا نتكلّم، بتمييزٍ، على ما هو فوق وما هو تحت، بل على السلام الذي لا يقدر على أن يعطيه العالم. المسيح هو نفسه سلامنا الذي انحدر من العلى، وهذا "عطيّة الله الآب" الذي نقدّم له، في الخدمة، عيوننا وأفواهنا وقلوبنا وكلّ ما ينبض فينا. وإذًا، طلبُنا أن يعطينا اللهُ الآبُ مسيحَهُ، "الآن وهنا"، خلاصًا لنفوسنا. وإذا تمعنّا في الخدمة عينها، فنعرف أنّنا فيها ننال مسيح الله كلمةً وقرابين، لنكون، طائعين وشاكرين، واحدًا فيه. فالسلام، موضوعيًّا، نتاج طاعة الكلمة وفعل نعمة القرابين. وهذا، من دون إطالة، يعني أنّ السلام المقصود لا يفهمه، حقًّا، سوى أولئك الذين يحجّون إلى الله في خدمةٍ يرونها موضوع وجودهم وهدف وجودهم، أي الذين تشغلهم طاعة الكلمة وأن يزدادوا رغبةً في نموِّهم في النعمة، النموّ الذي هو هدف اقتبال جسد المسيح ودمه المباركَيْن. فنحن، بهذا الخيار الذي نسمّيه التزامًا، إنّما نأتي إلى الله، لنتشكّل به، ويكون طموحنا أن نعمل رضاه في وعينا أنّنا شعبه وفي خدمة شعبه جميعًا. ولا أقول شيئًا غير معروف إن قلت إنّ من لا يبتغي سلام الله، بهذا المعنى المعروض، لا يأتي إلى الخدمة الإلهيّة كما أُريد لنا أن نأتي إليها، بل إلى لقاء صُحبة على إقررانا بأهمّيّتها تبقينا أسرى لحم ودم، حتّى لا أقول شيئًا آخر. وما يزيد ابتغاء السلام إلحاحًا وامتدادًا أنّ الكنيسة تطلب، قبل أن نشارك في الخدمة، أن نكون في صُلح (سلام) مع الكلّ، أي مع الله والناس وأنفسنا أيضًا. هذا سلوك ملزم يبيّن أنّنا نطيع الربّ في قوله: "إذا كنتَ تقرّب قربانك هناك إلى المذبح وذكرت هناك أنّ لأخيك عليك شيئًا، فدع قربانك هناك عند المذبح، واذهب أوّلاً فصالح أخاك، ثمّ عد فقرّب قربانك" (متّى 5: 23 و24). وهذا تمهّد طاعتُهُ لقول الطلبة التالية: "من أجل سلام كلّ العالم، وثبات كنائس الله المقدّسة، واتّحاد الجميع، إلى الربّ نطلب". بمعنى أنّ ما أوصلنا إلى هذه الطلبة يبيّن، مقبولاً، أنّ أحباب السلام، فحسب، هم الذين يستطيعون أن يخدموا سلام الله في العالم، ويساهموا في ثبات الكنائس ووحدة الكلّ.
دعونا نغوص، قليلاً، في هذه الطلبة.
نحن نعلم أنّ الخدمة الإلهيّة حجٌّ إلى ملكوت الله ("مباركة مملكة الآب والابن والروح القدس"، نعلن في بداءة الخدمة). وهذا يفترض قول شيئين. الأوّل أنّنا، في الخدمة، نكشف ارتضاءنا أن يملكنا الله. وحسبي أن ليس مثل هذا الكشف المرتضى ما يؤكّد أنّنا فاهمون أنّنا مستوطنو الملكوت منذ الآن. والشيء الثاني أنّ الخدمة تمنعنا من أن نترفّع عن العالم ترفّعًا مقيتًا. ليست الخدمة الإلهيّة رحلةً إلى خارج الكون، (فالملكوت حاضر، وإن كنّا ننتظر اكتماله في اليوم الأخير)، بل تستنزل حقّ الله على الكون، أو ترفعه إلى دعوته الحقيقيّة. هذا العالم يحتاج إلى السلام الذي تمّمه مسيح الله، ويريد أن يمدّه فينا. ويبدو أنّ العالم باقٍ هكذا إلى الأبد. "من أجل سلام كلّ العالم"، تقول، إذًا، ما حقّقه مسيح الله في شخصه وما ينتظره منّا في آنٍ واحد. ويجب أن نلاحظ، أوّلاً، أنّ هذه الطلبة، وطلبات الطلبة السلاميّة الكبرى جملةً، لا تميّز بين عضو في الجماعة وآخر. فكلّ ما في الخدمة يخصّ الكلّ. كلّنا، أي كلّ عضو فينا وكلّنا معًا، مسؤولون عن أن نساهم في أن يكون العالم في سلام دائم. طبعًا، هذا لا تحصره الشؤون السياسيّة، ولو أنّه لا يلغيها. فنحن نتكلّم على سلامٍ اللهُ يعطيه، ويريدنا أن نحيا بموجبه في وجوه حياتنا كافّةً (الكنسيّة والعائليّة والاجتماعيّة والوطنيّة وما إليها). نحن خدّام السلام في العالم، أي خدّام حقّ الله الذي فدى العالم، وسالمه في شخصه. ويجب أن نلاحظ، أيضًا، أنّ هذه الطلبة، تطلب، إلى سلام العالم، أن تكون كنائسنا ثابتة والجميع واحدًا. وهذا، الذي يؤكّد أنّنا لا نترفّع عن العالم، يؤكّد، تاليًا، أنّنا معنيّون بسلام كلّ كنيسة أرثوذكسيّة في العالم، أينما وجدت، إن في مدانا الأنطاكيّ أو في العالم كلّه.
من دون أن نبتعد عمّا في هذه الطلبة من مدًى مسكونيّ، ماذا يعني أن تكون كنائس الله المقدّسة ثابتة وواحدة؟ وليس من جواب سوى أن تكون قائمة في الحقّ الذي كشفته كلمة الله. فالكنيسة الثابتة هي التي ليس فيها نتوء عن قداسة الحقّ إن في القول أو في الفعل. ولا أزيد على ما هو معروف عمومًا إن قلت إنّ "اتّحاد الجميع"، وإن كانت طلبًا يبدو، ظاهريًّا، إضافةً إلى طلب "ثبات الكنائس"، إلاّ أنّه، قائمًا، من جوهر ثباتها. فالكنيسة من ثباتها أن يكون جميع المنتسبين إليها في وحدة ظاهرة. هذه هي رؤيتنا إلى الكنيسة التي تتحرّك بالروح القدس، وتمتدّ بالروح القدس فرحًا وطربًا بسيادته الجامعة. وإذا حملنا هذا الحقّ إلى مواقع محدّدة، أبرشيّة ما مثلاً، فتلحّ الوحدة علينا حياةً ونموذجًا ينشر طيبه على الملأ. وهذا لا تتغيّر قواعده العامّة. فهنا، من باب أولى، الوحدة مسؤوليّة كلّ عضو يعي ارتباطه في جسد الكنيسة الجامعة. فأنت، واقعيًّا، لا تستطيع أن تطمح إلى الوحدة العامّة إن لم تكن مشغوفًا بخدمتها في أوساطك. وهذا يحتّم عليك أن ترى كلّ عضو ضرورة في جسد المسيح، كلّ عضو، أيًّا يكن موقعه أو عمره أو جنسه أو وعيه أو مستواه الاجتماعيّ أو الثقافيّ. وضرورة تعني أنّه ضرورة لك أنت ولكلّ الكنائس دائمًا. ولا يليق بالوعي كاملاً أن تميّز إن كان هذا العضو لامعًا، أو يعرج بين الجانبين، أو لا تعنيه حياة كنيسته بتاتًا. فالرسول، في كلامه على المواهب، عبّد لنا درب رؤيتنا إلى وحدة الجماعة بقوله: "إنّ الأعضاء التي تحسب أضعف الأعضاء في الجسد هي ما كان أشدّها ضرورة، والتي نحسبها أخسَّها في الجسد هي ما نخصّه بمزيد من التكريم. ولكنّ الله نظّم الجسد تنظيمًا، فجعل مزيدًا من الكرامة لذلك الذي نَقَصَت فيه الكرامة، لئلاّ يقع في الجسد شقاق، بل لتهتمّ الأعضاء بعضها ببعض اهتمامًا واحدًا" (1كورنثوس 12: 22- 25). وما يبدو ظاهرًا أنّ ما دفع الرسول إلى هذا القول إنّما خوفه من لعنة الشقاق في جسد الكنيسة الواحد. فالشقاق هو "رأس الشرور" (رسالة القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ إلى أهل أزمير 7: 2)، أي شرّ الشرور. وهذا ما أكّده القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، بقوله: "قال أحد القدّيسين: إنّ دم الشهادة ذاته لا يمكن أن يمحو خطيئة التفريق والشقاق في الكنيسة... وإذا ارتكب أحدهم شرّ إحداث الشقاق في الكنيسة، فقد ارتكب شرًّا أفظع من شرّ رجل البدعة" (العظة الـ11 على الرسالة إلى أهل أفسس). وما تجدر بنا ملاحظته أنّ قوله "قال أحد القدّيسين" يدلّنا على أنّه يقتبس تعليمًا متوارثًا. ولكنّنا، مصرّين على خدمة الوحدة، ملزمون أن نرى في قول بولس، ولا سيّما كلامه على الاهتمام الواحد، وجهًا من وجوه المحبّة المنقذة. كان بولس كما لو أنّه يقول إنّ هذا الأخ، الذي كلّ ما فيه يدلّ على أنّه ضعيف وتافه، إن أحببته حقًّا، فستستنزل عليه نعم السماء، وقد تجعله يرى في الحياة الكنسيّة وجوده الجديد. فوحدة الجماعة إنّما تقوم على المحبّة دائمًا.
الطلبة الرابعة: "من أجل هذا البيت المقدّس والذين يدخلونه بإيمان وورع وخوف الله، إلى الربّ نطلب"، والطلبة الخامسة: "من أجل أبينا ورئيس كهنتنا (---) والكهنة المكرّمين والشمامسة الخدّام بالمسيح وجميع الإكليروس والشعب، إلى الربّ نطلب"، تبديان أنّ الطلبات جميعها، من دون استثناء، سلسلة مترابطة، أي أنّ الكلام على السلام، الذي أوصلنا إلى الكلام على ثبات الكنائس ووحدة الجميع، هو ما دفعنا إلى أن نصلّي، بتخصيص، إلى الكنيسة في هذا التفصيل الظاهر. وتبدو، هنا، بأجلى بيان، وحدة الجماعة الراكنة إلى الحقّ والفقيرة إلى نعمته. وتبدو حاجة الكلّ إلى الصلاة بإلحاح ظاهر. وهذا ينفع أن نستفيض فيه، وإن قليلاً.
الكلّ محتاجون إلى الصلاة. هذا أمر لا يخالفه واعٍ. فالسلام نعمة يهبها الله، ويحقّقها الله. ولربّما خير ما يجب أن نعرفه جميعنا، هو أنّ هذه الطلبة، من بين الطلبات جملةً، تترافق، في تقليدنا، مع رسم إشارة الصليب. الأسقف، حاضرًا، حينما يُذكر، يرسم إشارة الصليب على وجهه (ويبارك مَنْ ذَكَرَهُ)، وهكذا الكهنة والشمامسة والشعب جميعًا. وهذا يجب أن يعني لنا أنّ من تصلّي الجماعة له يريد، لا سيّما بهذا الرسم الغالي، أن يكشف فقره إلى الله، أي، ضمنًا، حاجته إلى الإخوة جميعًا، أي أن يبقى قائمًا في دعائهم. ليس الإنسان، أيُّ إنسان، شيئًا بعيدًا من جماعة الإخوة. وإذا أخذنا موقع الأسقف مثلاً، فالثابت، تراثيًّا، أنّ الخدمة التي، تفترض قانونيّتها شركة معه، تفترض، أيضًا، أن نعي جميعنا، هو ونحن، حاجتنا بعضنا إلى بعض. هناك عشرات الأمثلة، في العهد الجديد، وخصوصًا في رسائل بولس العظيم، تؤكّد أنّ أيّ خدمة في الجماعة إنّما تفترض أن يدعمها الإخوة لا سيّما في دعاء حارّ. هذا ما يسمّيه الرسول "مشاركة في البشارة" في قوله إلى أهل فيلبّي: "أشكر إلهي كلّما ذكرتكم. ففي كلّ صلاة، أرفع الدعاء دائمًا بفرح من أجلكم جميعًا. أشكره على مشاركتكم لي في البشارة منذ أوّل يوم إلى الآن" (1: 5). طبعًا، لا يمكننا أن نتصوّر أنّ بولس يعني، بهذا القول، أنّ أهل فيلبّي كانوا يرافقونه مبشّرًا في حلّه وترحاله. فهذا تصوّر غير ممكن واقعيًّا. وتعيننا قراءة الرسالة على التيقّن أنّ المقصود بهذه المشاركة إنّما دعمهم إيّاه في البذل والدعاء. كان أهل فيلبّي يزوّدون بولس بكلّ ما يحتاج إليه في خدمته، أي لا يبخلون عليه بشيء، ولا سيّما بأموالهم، ويلزمون الدعاء إلى الله أن يوفّقه في خدمته. ويمكننا أن نلاحظ، من صميم هذه المشاركة، أنّ صاحب القول يعتقد اعتقادًا راسخًا أنّ خدمته إنّما تتمّ بفضل هؤلاء الإخوة، أي ما يفعله هؤلاء الإخوة من أجله (أو من أجل انتشار بشارة الله). لا نرى، في كلّ إرث بولس، أنّه يعتقد أنّ خدمته تتمّمها مكانته أو علمه أو جهده (على أهمّيّة هذه كلّها). هذا استعلاء على جسد المسيح، أي على أعضاء الكنيسة، لا يمكن أن يُتّهم الرسول به. فالثابت أنّ بولس يؤمن بأنّ كلّ شيء يتمّ بالدعاء. "فتنبّهوا واذكروا أنّي لم أكفّ مدّة ثلاث سنوات، ليل نهار، عن نصح كلّ منكم وأنا أذرف الدموع"، قال فيما كان يودّع شيوخ الكنيسة في أفسس (أعمال الرسل 20: 31). بمعنى أنّه يعتقد أنّ الناس لا يتحوّلون إلى الحقّ لأنّه يريدهم هو أن يتحوّلوا إن بكلامه أو برغبته في ذلك، بل بفضل نعمة الله وجوده. وهذا ما يدعمه أهل فيلبّي. وهذا ما تقيمنا في خطّه هذه الطلبة المعبِّرة ("من أجل أبينا ورئيس كهنتنا والكهنة المكرّمين والشمامسة الخدّام بالمسيح وجميع الإكليروس والشعب") التي تضمّ كلّ أعضاء الكنيسة (المحلّيّة) في دعاء واحد. ولا بأس إن كرّرنا: تظهرهم كلّهم يحتاجون بعضهم إلى دعم بعض، كلّهم من دون أيّ استثناء.
ثمّ تدعو الطلبات الأخرى من أجل السلام للحكّام، وللمدن والأديرة، وللجوّ ليعتدل، وللأرض لتخصب بالثمار، وللمسافرين والمرضى والمتألّمين والأسرى. وهذا كلّه ننتظر أن يحقّقه الربّ. تدعو، أي تدعونا إلى أن نرفع الكون كلّه قربانًا إلى الله خالقه وراعيه إلى ما فيه خيره، ليسوده سلامه. وقبل أن ننهي هذه الطلبة الكبرى، نطلب أن ينجّينا الربّ "من كلّ ضيق وغضب وخطر وشدّة"، لكي نكون مع القدّيسين جميعًا أمّةً واحدةً بين يدي ربّنا الواحد الذي يحقّق فينا، بنفسه، كلّ ما نطلبه إليه. وعلى قولنا أعلاه إنّ الطلبة السلاميّة سلسلة مترابطة (وهذا ما يؤكّده، أيضًا، كلّ ما ندعو من أجله في هذه الطلبات المذكورة هنا)، يحلو لنا أن تكون هذه الطلبة تختصّ بكلّ ما طلبناه إلى الآن. فأهمّيّة هذه الطلبة أنّ مضمونها يحضّنا على الهرب من كلّ ما يناقض ما طلبناه طلبةً طلبة، أو، بكلام آخر، ما قد يعطّل صلاتنا نقيّةً. وهذا، أيضًا، يحتاج إلى بعض تفصيل.
ما لا يجهله واعٍ أنّ من وضع الطلبة السلاميّة الكبرى يعرف، ويريدنا أن نعرف، أنّ الجماعات، التي تحجّ إلى الله في الخدمة الإلهيّة، ربّما تهدّدها أوضاع صعبة. فالضيق والغضب والخطر والشدّة كلّها أمور واردة في غير عصر، واردة أن تصيبنا فرديًّا أو جماعيًّا. وهذه قد تأتي إلى الكنيسة من خارجها، وقد تأتي من داخلها أيضًا. السؤال الملحّ الذي يطرح ذاته علينا: ماذا تفعل الجماعة المهدّدة بخطر من هذه الأخطار الأربعة أو بها جميعها؟ الطلبة، على اختصارها، تقدّم حلاًّ ظاهرًا لا يشكّ عاقل في كماله: أن نلتجئ إلى الله. تقول: "من أجل نجاتنا...، إلى الربّ نطلب". وهذا يقوله، بتفصيل ظاهر، الإفشين الذي نتلوه في نهاية هذه الطلبة، أي: "أيّها الربّ إلهنا، الذي عزّته لا توصَف، ومجده لا يُدرَك، ورحمته لا تُحَدّ، ومحبّته للبشر لا تُقاس، أنت أيّها السيّد، اطّلع بتحنّنك علينا وعلى هذا البيت المقدّس، واجعل مراحمك ورأفاتك غنيّةً علينا وعلى المصلّين معنا". فما نطلبه إنّما يتمّ لنا بفضل رحمة الله ورأفته الغنيّة. وهذا يؤكّد أنّ ما يشدّنا إلى الله إنّما وجهه أوّلاً، أي ثقتنا به وبفعله الخلاصيّ. هناك، دائمًا، صعوبات مُرّة. فنحن لا نطلب السلام لغوًا، ولا نلتجئ إلى الله عفوًا. ويجب أن نبقى نعرف أنّنا نحيا في عالم لا يحلّ إلاّ الله الصعوبات التي تضربنا فيه.
قلنا الحلّ. أمّا إذا قلنا إنّ هذه الصعوبات معروف ما يثيرها من الخارج (الاضطهاد مثلاً)، فما الذي يمكن أن يثيرها داخليًّا؟ ليس عندي أمثلة سوى مثلين تجمعهما وحدة محكمة. الأوّل أن يستنبط أحد أعضاء الجماعة (أو مجموعة فيها) تعليمًا غريبًا عن التراث القويم، وثانيهما سلوكًا غريبًا. هذا أوحيت به، أعلاه، عندما استعرضنا معنى أن تكون الكنيسة ثابتة وواحدة. ويعنيني، هنا، أن أركّز على معيار وحدة التعليم والمسلك الحقيقيّ، وأعني الرؤية إلى الكنيسة كما أسّسها ربّها. نحن، عمومًا، تهزّنا أخطار التعليم المنحرف. تجعلنا في ضيق وغضب ونرى فيها أشدّ علامات الخطر. هذا ما يبدو أنّنا ورثناه جينيًّا. ولكنّنا قلّما ننظر إلى المسلك المنحرف كما ننظر إلى التعليم المنحرف. ولا أقصد بالمسلك المنحرف الخطايا الأخلاقيّة هنا (وهذه يجب أن تجعلنا في ضيق... كبير، ونحاربها فينا دائمًا وفي سوانا أيضًا)، بل الخطايا التي تشوّه الحياة الكنسيّة برمّتها، أي التي تشوّه المحبّة التي هي إقرار بوجود الكلّ، وبرغبة الخير للكلّ، وبانتظار الخير من الكلّ، والتي هي، تاليًا، تعليمنا كلّه (فلنذكر أنّ الخدمة تدعونا إلى أن نحبّ بعضنا بعضًا، لنعترف، بعزم واحد، بآب وابن وروح قدس، ثالوث متساوٍ في الجوهر وغير منفصل). سأكون أكثر وضوحًا بإيراد مثل صعب. لا شيء يجعل المؤمنين في خطر (فلنقبل هذه اللفظة على أنّها تحمل رفيقاتها اللواتي تظهرهنّ الطلبة) كما أن تُختزل الحياة الكنسيّة في عضو من أعضائها. وهذا الاختزال، الذي كان خطرًا نائمًا في الكنيسة قبل انطلاق وعي "النهضة" في مطلع العام الـ1942، أي يكاد لا يُشعر به، دفعنا حبّ الوعي، إن مدّ رأسه من جديد، إلى أن نراه خطرًا قائمًا كما لو أنّه أسد مفترس. كيف تأتي الأفكار السوداء؟ كيف تنبت؟ ما الذي يدفعها إلى الظهور؟ أسئلة لا نريد أن نمرّر قلبنا بالبحث عن الإجابة عنها. كلّ ما نريده أن نذكر أنّنا عدنا لا نحتمل أن تعود الحياة الكنسيّة إلى الوراء. عدنا لا نحتمل التسلّط، تشويه الطاعة، وكلّ تفرّد مقيت يريد أن يفتك في وحدة الكنيسة، ويوهمنا بأنّه الكلّ، أي عدنا لا نحتمل خروجًا على قول كتابنا: "ليس الله إله البلبلة، بل إله السلام" (1كورنثوس 14: 33). لقد قام وعي النهضة. وتذكّرنا أنّ تعليمنا الكنسيّ، ولا سيّما العماديّ، يدعونا إلى أن نرى أنّ كلّ عضو إنّما هو مكرَّم في كنيسة الله (كما يقول نصّ خدمة المعموديّة). ولا نرى أنّنا بمحتاجين إلى أن نذكّر بأنّ ما نقوله في سرّ المعموديّة إنّما يشكّل رؤية الله إلى الإنسان الجديد،"ذاك الذي يجدَّد على صورة خالقه، ليصل إلى المعرفة" (كولوسّي 3: 10) أي المولود جديدًا، أي المعمَّد، أي جماعة المعمَّدين. فالله هو من كرّم الإنسان بقبوله عضوًا في كنيسته. وهذه رؤية تفترض أن نعمل، بجهد ظاهر، على أن تسود الحياة الكنسيّة، ولا سيّما حيث نرى أنّ ثمّة من تستباح كرامة معموديّته أو يستهين هو بها، حتّى لا نستهين بالله الذي لا يستهان به. وهل من خطر يفوق خطر أن ننسى أنّ الله أوصانا بأن نعمل كلّ ما في وسعنا من أجل عودة أيّ خروف ضلّ (متّى 18: 12- 14)؟ فخطر الاختزال يقابله (أو قد يعبّد لـ) خطر الهروب، خطر الاستقالة، خطر اللامبالاة... فنحن يجب أن نحسن قراءة الأسباب التي قد تؤدّي إلى المخاطر. هذا كلّه يؤكّد أنّنا، في الكنيسة، نرى أنّ قيمة كلّ إنسان قرّرها الله له عندما قرّر أن يضمّه إلى قطيعه. وإن كان هذا قرار الله، فيعني أنّ هذا يجب أن يكون قرارنا الشخصيّ دائمًا. السلام لا يقبل أن يُهمَلَ الناسُ، أي كلُّ من مات المسيح عنهم، من يعون منهم ومن لا يعون. وإذًا، عندما ندعو إلى الربّ أن ينجّينا من كلّ ما يجعلنا في "ضيق وغضب وخطر وشدّة"، فيجب، على كلّ المعاني التي قد تحملها هذه الطلبة، ما قلناه وما لم نقله، أن يكون طلبنا أن يعطينا الربّ أن تكون كنيسته، دائمًا، كما يشتهيها هو (وهذا، ضمنًا، يفترض أن نضع حياتنا وجهدنا كلّه كُرمى له). وإذا كان موقع هذه الطلبة في مطلع الخدمة الإلهيّة، فيكون قبول مضمونها الظاهر، شرطًا من شروط إتمام هذه المسيرة التي نطلب فيها الوحدة بالله. من لا يقبل كرامة المعمّدين، أيًّا كان أو كانوا، يكون عدوّ الله، ويخرج نفسه من الخدمة وعليها. وهذا يجعلنا في ضيق وغضب. وهذا يشعرنا بخطر شديد. وهذا لا يفترق عن الاضطهاد الذي قد يهدّد الكنيسة من الخارج. وهذا نريد أن ينجّينا الربّ منه، لنكون في سلام، ونقدر على أن نخدم سلامه.
أمّا إذا قلنا في نهاية الخدمة الإلهية "لنخرج بسلام"، فيكون قصدنا، ما دمنا قد أتممناها، أي ما دام كلّ منّا يستعدّ للخروج إلى حياته، (يكون قصدنا) أنّنا مسؤولون عن أن نضع، في رعايانا ومجتمعاتنا وكلّ بقعة من بقاع العالم، إن أمكن، سلام الله، أي مسيحه، أي أن نحمل في قلوبنا ما كشفته هذه الخدمة التي لا مثيل لها، ولا سيّما وفق الوصيّة التالية: "صلّوا بلا انقطاع من أجل الآخرين، لأنّكم تقودونهم إلى الربّ على رجاء التوبة. افسحوا لهم المجال، ليتثقّفوا في مدارس أعمالكم. واجهوا غضبهم بالوداعة، وتبجّحهم بالدعة، وشتائمهم بالصلاة، وضلالهم برسوخ الإيمان، وفظاظة أخلاقهم بدماثة الطبع. ولا تردّوا لهم شرّهم بِشَرّ. كونوا لهم إخوة بالرحمة، ولنحاول أن نتشبّه بالسيّد، ولنتبارَ في حمل هذا الظلم والمهانة والاحتقار، حتّى لا يكون للشيطان في قلوبكم مكان ينبت فيه عشبه. اثبتوا في النقاوة الكاملة والتعقّل جسديًّا وروحيًّا في يسوع المسيح" (رسالة القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ إلى أهل أفسس 10: 1- 3).
هذا العالم، الذي نحيا فيه، يعوزه أن يفهم أنّ الله سالمه بدم وحيده. وتبقى قيمتنا أن نخدم، ما حيينا، هذا السلام في الكنيسة والعالم، "لنجرّد أعداء الحقّ المنظورين وغير المنظورين من أسلحتهم كلّها"، ونرجو أن نكون في "ملكوت السلام" (رومية 14: 17).