لقد اختارت الكنيسة الأرثوذكسيّة، بحبّ بالغ، أن تأخذ تعليم الرسول بولس عن علاقة المسيح وكنيسته الوارد في رسالته إلى أهل أفسس (5: 20- 33)، وأن تعكسه على المسيحيّين المتزوّجين. فالمقطع هو إحدى التلاوتين الخاصّتين بخدمة الإكليل (التلاوة الثانية اختارتها من إنجيل يوحنّا 2: 1- 11).
مَنْ عرف الأدب الكتابيّ، لا يفوته أنّ الرسول قد استوحى فكره هذا، أوّلاً، من علاقة الله بشعبه كما وصفها الأنبياء في العهد القديم، أي علاقة الزوج بزوجه (أنظر مثلاً: إشعيا 54: 4- 8، 61: 10 و11، 62: 4 و5؛ إرميا 2: 2، 31: 3؛ حزقيال 16؛ هوشع 1- 3؛ وانظر أيضًا: سفر نشيد الأناشيد). وأنّه استند، تاليًا، إلى رواية الخلق الواردة في سفر التكوين (2: 21- 24)، التي تجعل من المرأة زوجة الرجل ونظيره. فهذه وتلك أعطتا الرسول أن يتكلّم على سيادة المسيح العريس (متّى 9: 15، 25: 1- 13؛ يوحنّا 3: 29؛ 2كورنثوس 11: 2) الذي افتدى شعبه، ووحّده بدمه. فالربّ أحبّ الكنيسة، وغسلها "بالماء والكلمة"، أي بالمعموديّة التي هي مشاركة في موته وقيامته، وبكلمته الحيّة التي هي مقتضى حياة المؤمنين جميعًا، وشهادتهم في العالم.
يطلب الرسول، في فاتحة هذه التلاوة، من المؤمنين أن "يشكروا الله الآب كلّ حين على كلّ شيء باسم ربّنا يسوع المسيح" (الآية الـ20). فالحياة قوامها الدائم شكر الله الآب باسم يسوع الذي هو وجه الآب (2كورنثوس 4: 6؛ عبرانيّين 1: 3)، وطريقنا إليه (يوحنّا 14: 6). ويحثّهم، تاليًا، على الخضوع بعضهم لبعض بتقوى المسيح (الآية الـ21). ويخصّص النساء بالخضوع لرجالهنّ "كما للربّ" (الآية الـ22). وهذا مدخل قوله: "لأنّ الرجل هو رأس المرأة كما أنّ المسيح رأس الكنيسة التي هي جسده وهو مخلّصها" (الآية الـ23)، الذي يستكمله بقوله: "وكما تخضع الكنيسة للمسيح، فلتخضع النساء لأزواجهنّ في كلّ شيء" (الآية الـ24). ومعنى هذه الآيات جملةً أنّ الخضوع، الذي قاعدته "تقوى المسيح"، هو عمل مشترك بين الرجل والمرأة، ولو أنّ الرسول خصّ النساء بخضوعهنّ لرجالهنّ. فهذا قاله بعد أن جعل الرجل صورةً للمسيح والمرأة صورةً للكنيسة. الخضوع لا يفهم بعيدًا من هذا النسق. المسيح رأس الكنيسة، لأنّه، وهو ربّها، مات عنها. ودعوة الرجل أن يحذو حذوه. فالخضوع هو للمحبّة الكاملة، وليس لتعنّتٍ، أو للحمٍ ودمٍ بشريّين. ولذلك قال أبونا المفوّه يوحنّا الذهبيّ الفم ما معناه: "مَنْ يمت (رجلاً كان أو امرأةً) عن الآخر، يكنْ رأسه"، ليوحي بأنّ المرأة، إذا تقدّست ببرّ الله وكانت حياتها حجًّا إلى ملكوته، خضوع الرجل لها حقّ وواجب.
بعد هذا، يدعو الرسولُ الرجال إلى محبّة نسائهم "كما أحبّ المسيح الكنيسة، وجاد بنفسه من أجلها، ليقدّسها..." (25 و26). والمحبّة هي، أيضًا، موت في سبيل الآخر. هذا ظاهر هنا، وظاهر، بجلاء كلّيّ، في قول الربّ: "فإنّ الله أحبّ العالم، حتّى إنّه جاد بابنه الوحيد، لكيلا يهلك كلّ مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يوحنّا 3: 16). ليست المحبّة أن ننتظر أن يحبّنا الآخرون، لنحبّهم، هذا منطق أهل الأرض، بل أن نتمثّل بالله، ونبادر فنحبّ. والمحبّة، التي لا تنتظر مبادلةً، لا تنتظر استحقاقًا أيضًا. فَمَنْ يحبّ غيره، يحبّه دائمًا، ويصنعه بحبّه. فالمسيح غسلنا بحبّه، لنكون "مقدّسين وبلا عيب" (الآية الـ27)، أي خلقنا جديدًا، لنستحقّ أن نكون أبناء الله، ونقدر على الإخلاص له. هذا هو هدف المحبّة التي ينتظرها الله من الرجل كما من المرأة. وهذا يثبته قول الرسول: "وكذلك على الرجال أن يحبّوا نساءهم حبّهم لأجسادهم. مَنْ أحبّ امرأته، أحبّ نفسه. فما أبغض أحد جسده قطّ، بل يغذّيه ويعنى به شأن المسيح بالكنيسة. فنحن أعضاء جسده" (الآيات 28- 30). دائمًا، علاقة المسيح بالكنيسة هي المثال. وما نلاحظه أنّ مضمون هذه الآيات يوافق الوصيّة العظمى موافقةً كاملة. فالربّ دعانا إلى أن نحبّ الآخرين كما نحبّ أنفسنا (متّى 22: 39؛ رومية 13: 9؛ غلاطية 5: 4؛ يعقوب 2: 8). وهذا من معانيه أنّ الرسول ينتظر أن نبدأ بتنفيذ الوصيّة انطلاقًا من بيوتنا. إذ لا يعني لله شيئًا أن نحبّ الناس جميعًا، ونريد لهم كلّ خير ومنفعة (إن كنّا على هذه الأخلاق)، ولا نفعل الشيء ذاته مع أهل بيتنا أوّلاً.
ثمّ يتابع بولس كلامه بقوله: "ولذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته، فيصير الاثنان جسدًا واحدًا" (الآية الـ31؛ قابل مع: تكوين 2: 24). هذا ليس معناه أنّ الإنسان، إذا تزوّج، ينقطع عن أبويه، بل يتّحد بشريكه الجديد. وهذه الوحدة تقوم على المسيح. فالزوج لا يصير واحدًا مع زوجه إلاّ إذا اندمجا معًا في مسيح الله. العلاقة الزوجيّة لا توحِّد بحدّ ذاتها. فالوحدة، هنا، دعوة إلى تمتين العلاقة برأس الجسد، أي بمسيح الله. هذا ما يبيّنه الرسول بقوله التابع: "إنّ هذا السرّ لعظيم، وإنّي أقول هذا في أمر المسيح والكنيسة" (الآية الـ32). ويكرّر، أخيرًا، ما قاله قَبْلاً: "فكذلك أنتم أيضًا، فليحبّ كلّ منكم امرأته حبّه لنفسه، ولتوقّر (أو "ولتخف"، وهي عودة إلى التقوى الواردة في الآية الـ21) المرأة زوجها" (الآية الـ33). فالسرّ هو سرّ المسيح والكنيسة. كلّ أسرارنا تقول هذه العلاقة، أو تعكسها. والزواج لا يفهم بعيدًا من وحدة المسيح وكنيسته. الحبّ والتقوى وكلّ فضيلة مطلوبة من الزوجين، لأنّها مطلوبة مِمَّنْ يؤمنون بأنّ الربّ فداهم، ووحّدهم به.
هذا التعليم الحيّ سرّ الكنيسة الساعية في هذا العالم، وحياة أعضائها جميعًا، حتّى يبقى الزواج عرسًا يوميًّا.