منذ البدء، يحجب كاتب الإنجيل الرابع اسم واحد من تلاميذ الربّ. ولكنّه، في مسرى إنجيله، يطلق عليه إمّا: "التلميذ الذي أحبّه يسوع"، أو: "التلميذ الآخر". مَنْ هو؟ ثمّة مَنِ اعتقدوا أنّ هذا الاحتجاب يراد منه أن يرى كلّ تلميذ نفسه حبيبًا إلى الربّ. لكنّ كثيرين ناجوا بسرّ يوحنّا بن زبدى.
لنبدأ من البدء. كان مع أندراوس تلميذ آخر لمّا سمعا يوحنّا المعمدان يقول في يسوع: "هوذا حمل الله". وحثّهما يوحنّا معلّمهما على أن يتبعاه. وتبعاه. وأقاما معه في ذلك النهار (1: 35- 39). أيّ نهار؟ لا يذكر. يحدّد الساعة فقط. يقول: كانت نحو الرابعة بعد الظهر. لكنّنا يمكننا أن نخمّن أنّ مَنِ افتتح إنجيله بكلامه على الكلمة "النور الحقّ" لا يريد أن يتكلّم على تاريخ محدّد، بل على ما قاله في مطلع إنجيله. يريد أنّ الإقامة مع الربّ هي النور، هي النهار. هل أريد، أيضًا، أنّ صاحب الكلمات الأولى هو التلميذ المحتجب نفسه؟ أجل! أجل! وإذًا، ليست تفاصيل هذا اللقاء هي التي كشفت أنّهما واحد، بل أسلوبه، بل لاهوته. ويجب، إكرامًا له، أن نرى في حجبه اسمه، هنا وهناك، احتجابًا في مَنْ تنتهي الدنيا في "الإقامة معه".
ثمّ يكمل الإنجيليّ احتجابه. ويطيل احتجابه. القارئ، الذي يتابع الإنجيل فصلاً فصلاً، سينتظر إلى الفصل الثالث عشر، ليصادف ذكره مرّةً أخرى. قَبْلَ هذا، يحسب القارئ أنّ هذا التلميذ أنهى نفسه بنفسه! هل هذا ما أراده الإنجيليّ؟ هل أراد أن يتأكّد من أننا نسيناه قَبْلَ أن يطلّ علينا مرّةً أخرى؟ هل أراد أن نتركه في إقامته؟ إنجيليّ لا يريد أن تذكره، بل الربّ الذي يشهد له، هذا هو كاتب الإنجيل الرابع!
أمّا إطلالته الثانية، فترينا إيّاه متّكئًا على صدر معلّمه (13: 23- 25). هنا، يسمّي نفسه، أوّل مرّة، "التلميذ الذي أحبّه يسوع". يبدو أنّه وطّد الإقامة مع المعلّم! ماذا كان يفعل؟ كان متغلّلاً فيه! كان الربّ قد جمع تلاميذه إلى عشائه الأخير، وأخذ يخبرهم أنّ واحدًا منهم سيسلمه. حار تلاميذه في أمرهم. مَنْ يقصد؟ الكلّ شعروا بأنّهم متّهمون. والتجأ بطرس إلى واحد اعتبر قربه دليلاً على براءة! رآه، وأشار إليه بحاجبه أو بيده، وقال له: "سله على مَنْ يتكلّم؟". ومال ذاك دون تكلّف على صدر المعلّم، وسأله. ليس، هنا، مطرح الكلام على بطرس. ولكنّنا، في ذكره يومئ إلى التلميذ الحبيب، يجب أن نرى أثر هذا الحبيب الذي يستقبل آخر مشغولاً ببحثه عَمَّنْ سيسلم معلّمهم. هل هذا يسمح لنا بأن نستحضر ما سيجري لبطرس في ما بعد، أي أمر نكرانه معلّمه؟ يجب أن نفعل! ويجب أن نراه، في إيماءته، يومئ إلينا أنّ التوبة عن غير خطيئة تفترض، في آنٍ، عودةً إلى الربّ وإلى الذين يحبّهم الربّ. التلميذ الحبيب، محتجبًا، يخاطبنا من دون صوت! وإذا ذكرنا أنّ هذا تمّ في العشاء الأخير، فيجب أن نضيف إلى تأمّلنا أنّ العشاء إنّما اتّكاء على صدر المعلّم، وتاليًا ميلان إليه من دون تكلّف. هذا كلّه يشرّع أنّ التلميذ الحبيب هو الذي ينطبق عليه قول الربّ: "كما أحبّني الآب، فكذلك أحببتكم أنا" (15: 9). التلميذ الحبيب، في هذه الإطلالة، يقول لنا بثقة: كما أحبّني الربّ، فكذلك أحبّكم أنا. هذا هو أمر التلميذ الحبيب الذي يختصر كلّ أمر.
في إطلالته الثالثة، يبدو هذا التلميذ يرافق بطرس أيضًا (18: 15 و16). يقول الإنجيليّ كانا يتبعان يسوع الذي اعتُقل. ويميّز بين موقفَيْ هذا وذاك: التلميذ الآخر، يعرفه رئيس الكهنة، يدخل داره، ويبقى بطرس خارجًا. وعلى أنّ ثمّة مَنْ رأى، في هذه المعرفة، دليلاً على انتماء أسرة يوحنّا إلى سلالة الكهنوت، يجب أن نرى فيها معرفةً من نوع آخر. يجب أن نراها لمحةً إنجيليّةً فذّةً تختزل التاريخ من دون أن تلغيه. فبعد عودة الربّ ممجّدًا إلى أبيه، سينشغل عظماء الأرض باعتقال كلّ تلميذ يعرفونه حبيبًا إلى ربّه!
الإطلالة الرابعة تفسّر المحبّة بأجلى بيان. يقول الإنجيليّ، كان ثمّة مريمات ثلاث والتلميذ الحبيب إلى يسوع واقفين عند صليبه. فرآهما يسوع (أي رأى أمّه وتلميذه). فقال لأمّه: "أيّتها المرأة، هذا ابنك". ثمّ له: "هذه أمّك" (19: 25- 27). كيف تفسّرها؟ تفسّرها بإعلان الربّ أنّ الحبيب إليه يغدو يسوع نفسه!
أمّا الإطلالات الخامسة (20: 2- 8) والسادسة (21: 7) والسابعة (21: 20- 23)، فتجري كلّها، في نهاية الإنجيل، بعد قيامة الربّ. الخامسة ترينا مريم المجدليّة تسرع إلى سمعان بطرس والتلميذ الذي أحبّه يسوع، وتعلن لهما أنّها قد رأت الحجر قد أُزيل عن قبر المعلّم. فركض التلميذان إلى القبر. وصل الحبيب أوّلاً. ولكنّ بطرس دخل قَبْلَهُ، ثمّ هو، فرأى، وآمن. وهذه، التي تحكي أمورًا عدّةً، سنستدرّ منها أمرين. أوّلهما أنّ ما من أمر أسرع من المحبّة. إنّها جناحا الوصول إلى يسوع الحيّ. والثاني أنّ التلميذ الحبيب هو أوّل مَنْ رأى، وآمن. وستكون هذه الرؤية الجديدة، التي تشكّل طبيعة الإيمان بالربّ الحيّ، هي سند كلّ كلام على قيامته. والإطلالة السادسة، التي جرت في سياق ترائي يسوع أمام تلاميذه على شاطئ بحيرة طبريّة، تكشف ما أسرّ به التلميذ الحبيب إلى بطرس. قال له: "إنّه الربّ". هذا تبليغ المحبّ الذي ما من أحد يسبقه في معرفة الربّ حيًّا. وأمّا الإطلالة الأخيرة التي تكشف سؤال بطرس عن الحبيب "هذا ما شأنه؟"، فتعلن، وفق إجابة الربّ له: "لو شئت أن يبقى إلى أن أجيء، فما لك وذلك"، أنّ المحبّة أقوى من الموت.
إذا استرجعنا هذه الإطلالات السبعة!، لا يفوتنا أنّ العبارة العلنيّة الوحيدة المسجّلة في إنجيله، بعد قوله للربّ: أين تقيم؟، هي قوله لتلميذ آخر: "إنّه الربّ". هذا كلّ ما أراده يوحنّا بن زبدى!