20مايو

الاعتراف إقرار شخصيّ

الكلام على الاعتراف، في الكنيسة، هو كلام على البنوّة الروحيّة التي هي، في جوهرها، بنوّة لله. فالثابت، تراثيًّا، أنّ أعضاء الكنيسة جميعهم هم أبناء لآب واحد، هو الله أبو ربّنا يسوع المسيح.

مِنْ عمق الحياة في المسيح أنّها تقوم على ترابط الكلّ. القول المعهود إنّك ابن روحيّ لأب روحيّ، يختصر هذا الترابط الذي يجب أن تقوم الكنيسة عليه دائمًا. فالكنيسة، منذ البدء، قامت على هذا الترابط، أو الخبرة المنقولة من شخص إلى آخر. ولنا، لا سيّما في رسائل بولس الرعائيّة، خير مثال على ذلك.

أقول هذا، ومعلوم أنّ المؤمنين، الذين يحيون بمنطق البنوّة، باتوا قلّةً عزيزةً، "قطيعًا صغيرًا". معظم الناس لا يعتمدون الركون إلى أب مختبر. لا يكشفون قلوبهم. يختارون الاكتفاء بالذات نهجًا. المسيحيّة، في واقع الحال، تكاد تكون مجموعة أفراد مبعثرين، كلٌّ منهم يرى نفسه كاملاً في كلّ شيء.

حاول! حاول، إن كنتَ من ذوي العلم، أن تسأل أيَّ فردٍ أبعد نفسه عن حياة الجماعة، حاول أن تسأله عمّا تحسبه إهماله. وستسمع ما يمكن أن تعرفه. سيقول لك: "إنّني مؤمن، وكفى". ثمّ حاول أن توضح له ما ينقذه من فرديّته بتبيانك الحقيقة المخلِّصة. وسيضربك، من جديد، بقوله عينه! ويتباهى الكثيرون، عن علم أو جهل، بقولهم أنْ ليس في الكنيسة الأرثوذكسيّة اعتراف أمام الكهنة، وأنْ ليس من ضرورة للمشاركة في الخدمة الإلهيّة، وأنْ ليس وليس وألف ليس وليس. ويحيا معظم الناس، ويموتون، من دون أن يغيّروا شيئًا من قناعتهم. فهم يعرفون ما يعرفونه. وأنت لا دخل لك فيهم. أنت تعرف أنّ كلّ قناعة غريبة عن الحياة الكنسيّة تقيم صاحبها في برد شديد. ولكنّ ما تعرفه يجب أن تبقيه في أعماقك. إيّاك أن تسأل أحدًا من أين جاء بأفكاره. إيّاك أن تلحّ. اسمعْ ما يقولوه لك، واكتفِ به. فما يقوله هو الصحيح!

ثمّ إنّ الأزمة تأخذ أبعادًا تزداد صعوبةً إن كان مَنْ يشوِّهون معنى البنوّة مسيحيّين يُعتبرون ملتزمين. عفوك، قارئي، من هذه السلبيّة المتعبة! لا بأس! إن كنت قادرًا على أن تتابع القراءة، فأرجو أن تفعل. فالإيجابيّة لا تنزل علينا من فوق الغيوم. نلقاها في الأرض إن تحوّلت إلى سماء. والأرض، التي لمّا يسمُ أهلها جميعهم، هي منبت مشوّهات لا تُعدّ ولا تُحصى. وهذه خطرها فتّاك إن ظهرت على أفواه تعدّ ذاتها عارفة.

هناك قاعدة أساسيّة للاعتراف لا يخالفها ملتزم، وهي ممارسة الاعتراف عينه. فأنت، ابنًا، يلقّنك أصول البنوّة أبٌ مختبر. تأتيه، وترمي أثقالك أمامه. وهو يرشدك إلى ما ينفعك، ويساعدك على تجديد ذاتك باسترجاعك نقاوة قلبك. فلست بمبتدعٍ أمرًا جديدًا إن قلت إنّ الاعتراف هو إقرار شخصيّ بالذنوب. ولست بكاشفٍ سرًّا إن تابعت: يبدو أنّ هذا غائب عن بال الكثيرين اليوم. كلّنا يعلم أنّ الاعتراف، الذي يجمع ابنًا إلى أبيه، لا أحد يمكنه أن يشارك فيه. هذا طوي منذ أن انتهى عهد الاعتراف العلنيّ أمام الجماعة كلّها. لست أنادي بإعادة هذه الممارسة القديمة. يكفي أيّ واحد منّا أن يمشي في طرقاتنا، حتّى يستعيض عمّا طواه الزمن! فالخطايا ظاهرة علنًا، وتشمئزّ الآذان من ضجيجها. وإن كان الاعتراف إقرارًا شخصيًّا، فيعني، ممّا يعني، أنّه لا يقبل تشريح الناس في غيابهم. كلّنا يعلم أنّ معظم الناس، في الدنيا، يستسهل بعضهم أكل لحوم بعض. وهذا لا يجوز نقله إلى داخل الحياة الكنسيّة. لا يجوز أن يتصرّف بعضنا كما لو أنّ الاعتراف جلسة ثرثرة، يمكن أن نحضر إليها مَنْ نشاء، ونشرّحه كما يحلو لنا! ليس قصدي أنّ مَنْ أُعطوا أن يُصغوا إلى اعتراف المؤمنين مسؤولون جميعهم عن هذا التشويه. لا، حاشا! لكن، ما دام هذا موجودًا، فتمنعنا الموضوعيّة من أن نهمل ذكره. يجب ألاّ ننسى، لحظةً، أنّ المسلّمات لا تقبل تشويهًا. السفينة لسنا ربّانها، لندير دفّتها كما يحلو لنا. ومعنى ذلك أنّ مَنْ يقبل الإصغاء إلى الثرثرة يتجاهل حقيقة كون المؤمنين هم أولاد الله جميعًا، أي مَنْ يعتبر أنّ ابنه هو ابن الله الوحيد يجعل مَنْ أتى به ابنُهُ إلى محكمة فحصه ابنًا منبوذًا ومستحقًّا كلّ غضب! صحيح أنّ هناك صعوبةً هائلةً في قبول اعتراف بعض الناس أحيانًا، وهي أنّك تبني إرشادك على ما تسمعه منهم. لستُ بقائل إنّ صحّة الاعتراف تفترض أن يحيا المعترف في ربوع أبيه (كاهن رعيّته مثلاً). ربّما هذا، بما يفترضه من قربى قد تكشف كثيرًا من المستور، يخفّف، في بعض الأحيان، من عبء أخطاء كثيرة. وعلى ذلك، لا أقول بتبنّيه حصرًا. لكن، لا يجوز أن يُتجاهل أنّ الاعتراف لا يقوم على سوى الصدق. وهذه مسؤوليّة الأب وابنه في آنٍ واحد. فالأب يبدو صدقه، في ما يبدو، في تذكير ابنه بكونه عضوًا في كنيسةٍ كلُّ أعضائها أبناء لله. والابن في قبوله البنوّة العامّة نهج اعتراف. لا يحتمل الاعتراف أن يسعى المؤمن إلى أن يكون حلوًا في عيني معرِّفه، ولا أن ينتظر غنجًا ودلالاً. الاعتراف ظرف مصالحة. هذا، باختصار كلّيّ، هو هدفه الوحيد. والمصالحة تعني أن ترى ذاتك، خاطئًا، خارج الجماعة التي تبيّن، في الاعتراف، أنّك تستجدي العودة إليها. فإن استغللت اعترافك، لتقول خطايا غيرك، فبأقلّ اعتبار ستتلقّى إرشادًا يخصّ سواك. وفي الواقع، لا يقدر معرِّف على أن يرشد شخصًا غير موجود أمامه. دوره أن يشفيك أنت. وإن مرّرك أحد إخوتك في الجماعة، فلا مانع من أن تذكر مرارتك. لكن، فقط، في سياق الكشف عن مسؤوليّتك الشخصيّة. وإن ساورتك نفسك أن تبرّر فعلتك بدافع محبّتك لِمَنْ تغتابهم، فلنقرأ معًا: "سمعت أناسًا يغتابون غيرهم فانتهرتهم، فأجابوني محتجّين بأنهم إنّما يفعلون لمحبّتهم واهتمامهم بِمَنْ يغتابون. فرددتُ عليهم: أبطلوا مثل هذه المحبّة، لئلاّ تكذّبوا القائل: "طردتُ عنّي المغتاب لجاره في الخفاء" (مزمور 100: 5). إن كنت تحبّ إنسانًا كما تقول، فَصَلِّ من أجله خِفْيَةً، ولا تسخر به، فهذه هي المحبّة المقبولة عند الربّ" (السلّم إلى الله 10: 4).

إلى هذا، لا بدّ من التوضيح أنّ ثمّة، في الاعتراف، خطايا يحملها المرء إلى أبيه، وأخرى تظهر في جلسات الفحص. معظمنا يعي أنّ الاعتراف، في غير وضع، يشبه الطبّ. أنت تظنّ أنّ ألمك في مكان محدّد. تذهب إلى طبيبك، لتستشيره. وقد يؤكّد لك ما خمّنته أنت نفسك، وقد يحدّد لك سببًا آخر. وَمَنْ جاء، مثلاً، ليثرثر على أخيه في الاعتراف، فقد يظنّ أنّ الخطيئة محصورة في الموضوع الذي يطرحه، أي ربّما لا يحسب أنّ الثرثرة هي خطيئة أيضًا. "طبيبه" يراه، ويسمعه. ومن الواجب ألاّ يصرفه من دون أن ينبّهه إلى شرّه الظاهر، ويحضّه على الشفاء منه. إذ ماذا ينفع أن نعترف بخطايانا (وخطايا غيرنا!)، إن لم نكن قادرين على أن نغفر، ونحبّ! هناك أمثلة عديدة، في التراث الكتابيّ، تبيّن أنّ الاعتراف يطلب أن يصالح الأخ أخاه الآن. وخير مثل ما أورده الربّ في عظة الجبل، أي قوله: "فإذا كنت تقرّب قربانك إلى المذبح وذكرت هناك أنّ لأخيك عليك شيئًا، فاذهب أوّلاً فصالح أخاك، ثمّ عُدْ فقرّب قربانك" (متّى 5: 23 و24). أو قوله: "وإذا خطئ أخوك، فاذهب إليه وانفرد به ووبّخه. فإذا سمع لك، فقد ربحت أخاك..." (متّى 18: 15- 17). ليس من قيمة لكلّ اعتراف إن اعتقدنا أنّ هدفه الأخير أن نروي ما عندنا فحسب. القيمة هي للمحبّة. هذه، وحدها، تؤكّد أنّ المصالحة، التي نطلبها في الاعتراف، قد ظهرت حقًّا. وهذا يعني أنّك، إن أتيت إلى "طبيبك" ودلّك على مصدر شفائك، فلا يكمل شفاؤك إن لم تطعه، أي إن لم تجدّد قلبك. الشفاء الحقيقيّ يكمن، فقط، في تجديد القلب الذي جعله الله قادرًا على أن يسع العالم كلّه.

مَنْ كتبوا عن الاعتراف كثيرون جدًّا. وإذا تأمّلنا في حالنا، فقد نحسب أنّ ما كتب قد ضاع معظمه في معمعة الإهمال. ليست هذه دعوةً إلى الاستقالة من الكتابة، بل إلى اعتماد حسن القراءة التي تفيد حياتنا وخلاصنا. وعندي، لو كان شعبنا كلّه يمارس الاعتراف كما يليق بالله، لكنّا أنقذنا أنفسنا من مشاكل مرهقة. فإهمال الاعتراف مؤذٍ في غير وجه. الله يطلب خلاصنا في واقعنا الذي نحيا فيه. وهذا، إن لم نبح به، فكيف يداوى؟ بلى، إنّ الله يكشف المستور. هناك آباء شيوخ كانوا يعرفون خطايا أبنائهم قَبْلَ أن يبوحوا بها. ولكن، هل يمكننا أن نعمّم هذه النعمة؟ الاعتراف الشخصيّ هو كشف أيضًا. فهلاّ نُقبل جميعنا عليه؟

- مجلّة النّور، العدد الرابع، ٢٠٠٩
شارك!

اضف رد

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content