الناس، اليوم، إن سألتهم عن أحوالهم، فقد تسمع أجوبةً من تلك التي اختبرتَ حزنها!
الناس خائفون. أجل، خائفون! وهل تُحصى أسباب الخوف في مدانا العربيّ؟!
كنّا، في الماضي القريب، إن سألْنا عن أحوال المسيحيّين في هذا المدى المسمّى مشرقًا، يعزّينا، في أكثر من أمر، حالهم في بعض بلداننا العربيّة (سورية مثلاً). الناس، في مدانا، باتوا، اليوم، خائفين مثل الناس في بلداننا العربيّة، وعلى الناس في بلداننا العربيّة، مسلمين ومسيحيّين. أقول: الناس خائفون، ولا أعني الناس جميعًا. فإشرافنا على الأمداء إشرافات! ثمّة بيننا أناس، مسيحيّين ومسلمين، لا تستوقفهم آلام الآخرين بتاتًا. وثمّة أناس يشمتون... نحن قومٌ، بعضنا أو معظمنا، نحيا في ذاكرة مريضة. ارتضينا، عن جهلٍ نُصرّ على أن نزكّيه، أن تفتك بنا أفكار عفنة، وتبقي الكثيرين منّا وراء! لكن، وعلى كثرة المتخلّفين، ثمّة، أيضًا، أناس حفظهم الحقّ لنفسه. أناس أحرار من كلّ مرض. أناس يحبّون "سلام كلّ العالم".
أقصد، بالناس الذين ذكرتهم من هذا النوع وذاك، الناس في لبنان. لبنان المشغول في تخبّطاته التي بعضها مخجل، وبعضها الآخر مخيف. لبنان الذي تعوّد أن يبقى مهدّدًا. لبنان المتناحر غير القادر على أن يتلاقى. لبنان الذي، بعد ثمانٍ وثلاثين سنةً على اندلاع حرب مجنونة فيه، يبدو كما لو أنّه يأبى أن يتواضع. لبنان الذي معنى اسمه أبيض، معنى اسمه تقريبًا فقط! الذين ارتقوا من ناسه إلى إنسانيّة حرّة، خوفهم على مصيرهم يوازي خوفهم على البلدان العربيّة الأخرى. وسورية، لغير سبب، أوّل البلدان.
إن خصّصت من اللبنانيّين المرتقين الإخوةَ المسيحيّين، فيمكنني أن أسمّي أشخاصًا عديدين، تجمعنا معًا غير شركة، شركة حياة وشركة مصير. وإن الإخوةَ المسلمين، فيمكنني، إلى بعض الصداقات، أن أذكر مَن أُعطيت أن ألتقي بهم في سياق خدمتي، أو مصادفة. قلق هؤلاء قلق هؤلاء. هو هو!
ما يطرحه هؤلاء الإخوة المرتقون حرٌّ كلُّهُ من غير أَسْر بغيض.
هل يعوزني أن أُفصح أنّني، مثلي مثل الناس جميعًا، قد أُسأل عن بعض أحوالي أيضًا؟!
منذ أيّام، كنت في زيارة منزل أحد أصدقائي. سألني أخ لبنانيّ مسلم، يجب أن أكرّر: أخ لبنانيّ مسلم، كان ضيفًا على صديقي أيضًا، (سألني) إن كان ثمّة خبر، عرفناه، عن "اختطاف المطرانين" (مطراني حلب بولس (يازجي) ويوحنّا (إبراهيم) اللذين اختُطفا في سورية في نيسان المنصرم). وعلى أنّ هذا السؤال يجمع لك كلّ حزن وقلق وخوف، لا أُخفي أنّه أثّر فيَّ كثيرًا. أجل، أثّر فيَّ أنّه أتاني من إنسان لا يجمعني به دين واحد. وأثّر فيَّ حزنه من جوابي أيضًا. طبعًا، لم أقدّم له معلومةً تُطمئن، أعتقد أنّ الذين يمكن أن يقدّموها خطفتهم أمورهم أيضًا!، بل ما يردّد عمومًا، أي قلت: "لا نعرف عنهما أيّ شيء".
ثمّة كلمات، تخرج منك، وإن كرّرتها ألفَ مرّة، تبقى تخرج رطبة.
أجل، ثمّة كلمات تقولها في فمك وعينيك.
أمّا ما هو أبلغ من أيّ ما تقوله، فأن تقابل إصغاءً يرافقه تأثّر يشبه انطلاق المياه!
لم أحبب اللغة الطائفيّة يومًا. ولا أدخلها في مجال سطوري إن سألت بافتتانٍ علنًا: أليس من الرائع، من الرائع جدًّا، في مدًى كاد التعصّب يفتك به، كلّه كلّه، أن تلتقي بأناس، تعرفهم أو لا تعرفهم، من دينك أو من غير دينك، أناس يصرّون، بمحبّتهم البيضاء، على أن يبقى لبنانهم أبيض؟!
بلى، سألت نفسي: هل الخدمة، التي أزاولها، هي التي دفعت هذا الأخ إلى أن يطرح سؤاله؟ هذا لا أنكر أنّه ممكن. فالناس، مجتمعين، شأنهم، إن لم يعرفوا بعضهم بعضًا من قَبْل، أن يبحثوا عن أشياء مشتركة يتحدّثون فيها. لكنّني ميّال إلى أمر أكثر إمكانًا أقنعتني به المحبّة والحزن ورطابة الإصغاء! الناس، إن لم يكونوا منخرطين في خلافات السياسة، فلا بدّ من أن يكونوا منخرطين في وطنٍ وجهُهُ وجوهُهم!
أمّا خارج ذاك المنزل، أفلا توجد منازل، منازل كثيرة، يضجّ فيها هذا السؤال عينه؟
الناس كلّهم، من كبيرهم إلى صغيرهم، يربطون بين الأسقف وكنيسته. في العالم اليوم، هناك مخطوفون كثيرون. التجارة بأرواح الناس جرحُ السماء والأرض. ولا أهمل ذكر أيّ مخطوف إن اندفعت إلى الكلام على "المطرانين". إنّني أرجو أن يُهدم بابُ كلّ أَسْر. أمّا المطران، فكنيستُهُ! هل هذا الخطف يزيد خوفًا على خوف الناس الذين افتتحت سطوري بذكرهم؟ منذ أن أخذت قلمي بيدي، كان خبر "خطف المطرانين" قائمًا أمامي. أجل، هذا يزيده. لا أعلم إن كان الخاطفون قادرين على إدراك أنّ الأسقف كنيستُهُ. لكنّ ما لا أعتقد أنّهم يجهلونه أنّ الإفراج عنهما يبرّد قلوب أناس ينتظرونهم. هؤلاء، ولا سيّما المسيحيّون منهم، يريحهم أن يضع العالم، دائمًا، الأسقف فوق كلّ خلاف في الأرض. هذا موقعه: فوق. ربّما لن يأتي اليوم الذي ترى فيه الناس، كلّ الناس، يقاربون الأسقف كما يقارب المسيحيّون الإيقونة. لكن، هل يليق بإنسان، أيًّا كان معتقده، أن يزدري مَن يكرّمه سواه؟ أيّ شريعة تأمر بأن تُخفى "الإيقونة" التي تعبر بناظرها إلى فوق؟ ألم يسجّل التاريخ أنّ مئةً وعشرين عامًا، من الحرب الغبيّة، لم يقدر فيها أعداء الحقّ على أن يقضوا على "التي هي وجهُ الأبديّةِ" و"الكونِ المتجلّي" ونافذةُ التعزياتِ التي تأتي من فوق؟!
لا تسأل أيًّا من الناس عن أحواله. أحوال الناس معروفة. أحوالهم أحوالك. اسأل الله، الذي أرسل يسوعه لينادي للمأسورين بالإطلاق (لوقا 4: 18)، أن يأتي عالمك بالفرج سريعًا. اسأله أن يفرج عن المخطوفين جميعًا. ارجه أن تستعيد كنيستك إيقوناتها المخطوفة، ليزداد حلاوةً كلُّ سجود وتقبيل.