3يونيو

الأب المقسِّم

       أصابته رصاصة قنّاص، في نهاية الحرب اللبنانيّة الأخيرة، بينما كان قاصدًا جامعته ليرى نتيجة الامتحانات التي خضع لها لنوال الشهادة في الهندسة، وأردته قتيلاً.

       صدم موته أهله ومعارفه طرًّا. وأقامت له عائلته دفنًا يليق بشابّ قضت عليه مظالم لا علاقة له بها.

       كان أبوه شيخًا ملتزمًا يعتمر بالمحبّة والإيمان، ويعنيه أن تتحكّم كلمة الله في حياته. فحاول، جاهدًا، أن يهدّئ من روع عائلته، ولا سيّما أولاده. وكان يقول لهم بثقة: إن كان الله سمح بأن يصيب أخاكم ما أصابه، فمن واجبنا أن نطمئنّ إلى أنّه في يدين أمينتين، وأن نرجو إلى الله العارف أن يشركه في بركات فرحه.

       أولاده حسبوا أنّ أباهم فقد عقله. وقال بعضهم لبعض: إنّ جنونه هو الذي يجعله يهذي، ويقول ما يقوله. ولكنّهم لم يكشفوا له حسبانهم خوفًا من أن يضيفوا ألمًا إلى ألمه.

       مرّ أربعون يومًا على موت الشابّ. وكان أهله يهيّئون أنفسهم للذهاب إلى الكنيسة ليشاركوا في الخدمة الإلهيّة. فدعاهم أبوهم قبل خروجهم، وقال لهم: إنّنا، اليوم، قاصدون الله لأمرين، الأوّل من أجل أن نرفع الدعاء إليه ليرحم أخاكم الذي مات ظلمًا، والثاني من أجل أن يسامح من ظلمه!

       لم يصدّق أولاده ما سمعته آذانهم. وتأكّدوا ممّا كان في حسبانهم، وقالوا له، هذه المرّة، ما منعهم الخوف من قوله قبلاً. أمّا هو فردّ عليهم بهدوء كلّيّ: لا يمكننا أن نقف أمام الله، ونطلب إليه الطلب الأوّل، إن لم نكن قادرين على قول الطلب الثاني! ثم أردف: إن كان أحد منكم لا يريد قول الأمرين، يمكنه أن يلازم البيت إلى أن نعود!

       سمعه أولاده، وقسمهم قوله إلى قسمين. بعضهم اختار البقاء وقفًا لمجادلة قد لا تنتهي! والآخرون وافقوه، وخرجوا معه إلى الله الرحيم والغفّار، وفي قلوبهم دعاءان ما زالوا يردّدونهما إلى اليوم.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content