أودّ، بادئ بدء، أن أرفع شكرًا إلى الله أنّه أقام بيننا إخوةً صالحوا أفواههم وأياديهم، ليشهدوا له. هذه نعمة غالية تدلّ على أنّه ما زال ينعطف على دنيانا نحن الخطأة، لنكون، ونكون أفضل.
أمّا تبليغ الشهادة، فسأجرؤ، وإن في عجلة، على أن أخطّ فيه بضع ملاحظات أخويّة.
إذا حفظت خير التبليغ المحيي الهادر كما لو أنّه الشلاّل، يبقى أنّ ما دفعني إلى هذا الاجتراء أمورٌ مقلقة تطالعنا بها بعض صفحات (ورقيّة أو ألكترونيّة) يبتغي كتّابها الشهادة لله. ومن دون أن أترفّع على أحد، سأخصّص من هذه الأمور أمرين بارزين. أوّلهما سأكتفي بالدلالة عليه. وهذا أنّ ثمّة بعض إخوة يستعملون الكلمة فيما يهملون، ربّما عن غير قصد، أنّ المسيحيّة يأبى حقّها أن ندين سوانا. وأمّا الثاني الذي سيشغلني هنا، فهو أن بعض الكتّاب، إن أرادوا مثلاً أن يردّوا على ما لا يرونه قويمًا في تعبير آخرين، لا يبدون قادرين على أن يميّزوا ما بين آراء الآخرين والآخرين أنفسهم. فبعض الذين ينعطفون على صفحاتهم، ليوضحوا أمرًا رأوا أنّ سواهم حاد فيه عن المسلّمات (برأيهم)، لا يُظهرون أنّهم يحسنون محاكاة الهدف من الكتابة الملتزمة، أي أن يدفعوا القرّاء، أيًّا كانوا، إلى أن يقرأوهم. فالتبليغ، قولاً أو كتابة، شأنه أن نريده أن يصل إلى الناس، أو لن أقول: لا ضرورة له، بل لا ضرورة لمَن لا يعتقد بهذا الشأن هدفًا أن يُتعب نفسه بوضع حرف. وأرجو أن تصل كلمتي إن قلت: بياض الصفحات أفضل!
بلى، ليس في أدبنا من تبليغ لا نضع فيه أنفسنا مع مَن نخاطبهم. وهذه خير فضيلة أرى أنّ اختيارها واجب يلزم الكاتب، أيّ كاتب. وإن قلت فضيلة، فأعني، إلى الثقافة التي يفترضها التبليغ، أنّه فضائل دائمًا. ومن الفضائل، متى أردنا الكتابة، أن نرى إلى الذين نخاطبهم أنّهم إخوة. إخوة، إخوتي، وإن كان بعضهم (أو حتّى كلّهم!)، لا يماشونني في آرائي (يخالفونني، أو يخطّئونني!). هذا، إن رأيته فعلاً، فلا بدّ من أن تأتي كتابتي صورةً عن رؤيتي. أي مَن يتقن الأخوّة، يتقن التبليغ. أي، المحبّة هي حُكم تبليغ الشهادة وحَكمها. أي، إن حزت المحبّة فعلاً، تستكتبني أنّ إخوتي أهمّ، بما لا يقاس، ممّا أحسبه فكري!
هل أقصد أنّ بعض الذين يردّون على آخرين، كتابةً أو شفاهًا، ينكرون عليهم أنّهم إخوة؟ لا أعتقد أنّ أحدًا، مهما بعدت آراؤنا بعضنا عن بعض، قادر على أن ينكر على أيّ آخر أنّه أخوه، "لحم من لحمه وعظم من عظمه". أمّا قصدي، فأن نجتهد في إظهار الأخوّة بإتقان نافع، تكلّمنا أو كتبنا.
هذا، لا سيّما إن كنت مبتدئًا، له سبله العمليّة. مثلاً عمليًّا: أن أقرأ ما وضعته على نفسي أوّلاً. فالمراجعة، مرّةً ومرّاتٍ، قد تجعلني أتعلّم أن أهدأ إلى التعبير عن فكري بما أعوزه أنا وقارئي! ألا يمكن أن يكون هذا ما قصده فيدور دوستويفسكي في إحدى رسائله، أي: "لا يأتي دفعةً واحدةً إلاّ ما يتعلّق بلحظات الإلهام. وما سوى ذلك، فمن مآتي العمل الدؤوب الشاقّ"؟ ثمّ أن أقرأه على سواي، أعرف أنّه حرّ حقًّا، قَبْلَ أن أنشره على الملأ. فالذين بلغوا وعيًا فذًّا، يؤهّلهم لأن يكونوا كتّابًا وقرّاء بآن، هم قليلون. ما يثبت ذلك، هو المساهمات التي نقرأها! فهذه تبيّن مَن الذي بلغ هذا الوعي فعلاً، ومَن ما زال يعرج فيه، أو يفتقده قليلاً أو كثيرًا. وأن أقرأ نصّي على سواي، أمر لا أريد منه أن أبيّن تواضعًا هو أعلى ما يجب أن أسعى إليه دائمًا، بل ثقةً بأنّ إخوتي، وإن واحدًا، يمكنهم أن يعينوني على مراجعة ذاتي. [quote font_style="normal" align="left" arrow="yes"] "لا يأتي دفعةً واحدةً إلاّ ما يتعلّق بلحظات الإلهام. وما سوى ذلك، فمن مآتي العمل الدؤوب الشاقّ
- فيدور دوستويفسكي"[/quote]
هذا كلّه يعني أنّ شأني، متى أردت أن أكتب (أو أن أفعل أيّ أمر آخر تطلبه كنيستي)، أن أرجو بناء الآخرين بالله. كلّ كتابة نوع من مناداة الناس، الذين يوافقوننا أو يعارضوننا، إلى أن يفكّروا في ما نطرحه عليهم، ويقبلوه، إن أمكن. وأنّى للإنسان، لأيّ إنسان، أن يقبل ما لا يؤثّر إيجابًا فيه؟ وهذا، الذي لا يخالفه تواضع، لا تحقّقه الإرادة أو الرغبة وحدها، بل "العمل الدؤوب الشاقّ". العمل، العمل، هو الذي يعطينا أن نكتسب أسلوبًا يخدمنا وسوانا في صياغة ما نودّ نشره على الملأ. وإذا استرجعت سياق الردّ على آخرين لا يتقصّدون السوء، فأرى أنّ من "مآتي العمل الدؤوب" أن أقرأ ما وضعوه من دون أن أسلخ عن أيٍّ منهم استقامته أو صدق حبّه لأن يعمّ حقّ الله. فربّما مَن حرّكني إلى الردّ عليه، يكون لم يتوفّق في تعبيره. ومنه أيضًا، إن قرأت أمرًا أقلقني مثلاً، أن أراقب نفسي جيّدًا قَبْلَ أن أتسرّع في قرار الردّ عليه. إن شعرت بأنّني حارد، فالأحرى بي أن أعدل عن قراري. إن لم أفعل، فقد أجرح. وإن جرحت، فستسقط المادّة التي وضعتها، ويضيع تعبي سدًى. الهادئ، فقط، هو مَن يهدأ إليه روح الله، ويستكتبه منافعَهُ.
ربّما لا يعوزني أن أذكر، بعدُ، أنّ أيّ كتابة من الصعب أن تصحّ ما لم يظلّلها أنّها عمل جماعيّ. عمل جماعيّ أو توافق، يبقى المعنى واحدًا. إن كنت أكتب في منزلي وحدي، أي في غياب الإخوة، فيجب أن أحيي فيَّ قناعةً أنّني لا أمثّل نفسي. أيّ منبر، يؤهّلني لأن أظهر عليه، يلزمني أن أدرك أنّ له حقوقًا عليَّ. يكرّمني الإخوة بأيّ إطلالة يسمحون لي بها (حتّى لو كان لي موقع يخصّني وحدي). وواجبي أن أقبل تكريمهم إيّاي بأن يكونوا نزلاء قلبي دائمًا، قَبْلَ أن أكتب، وفيما أكتب، و(أن يشعروا بذلك) متى ظهرت كلماتي (على ورق أو أينما أظهرتها). وإن رأى بعض الإخوة أنّ هذا كَبْلٌ لاجتراء الناس على قول الحقّ، فليذكروا أنّ ثمّة فرقًا شاسعًا بين الجرأة ومحاولة إخضاع الآخرين لما أراه يستهويني.
أكرّر رفع الشكر إلى الله إلهنا الذي شاء لنا أن نكون أفضل. هذا الشكر لا أريده أن يضيع في سياق تبيان ملاحظات أرجو أن تُقرأ أخويًّا. وأضمّ إلى هذا الرجاء أن ينعم الله علينا بأن نعظم في وعينا أنّه إن كان نشر الاستقامة قصدنا من أيّ تبليغ، فجناحا هذا النشر أن نزداد في المحبّة أكثر فأكثر.