26أكتوبر
Dr Elie Aramouni

د. إيلي عرموني

أمِ الأطباء يقيمونهم فيعترفون لك

المزامير

عندما علمتُ أنّ إيلي عرموني، طبيب الأطفال المعروف في لبنان، قد هيّأ حقيبة سفره إلى اللَّه، انكسرت أشياء فيّ أيضًا. إنسان، بعمري وباجترائه على قبولِ خدمةٍ أحزانُها، مثل أفراحها، معروفة، يُفترض أن يعرف، من دون جهد، أنّ هذه الحياة هي وقتيّة. لا أتكلّم فقط على هذه القناعة المخلّصة، على ما أعرفه أو لا أعرفه، بل أيضًا أعترف علنًا بأنّ الموت، في كلّ مرّة نواجهه فيها في أيّ إنسان، لا سيّما إن كان قريبًا، يكسر أشياءَ فينا. لا يتركنا الإخوة والأصدقاء من دون انكسار. لا يموتون أمامنا قبل أن يموت شيء فينا أيضًا.

أعرف إيلي عرموني قبل أن تربطنا صداقة وطيدة. أعرفه أوّلًا من بيت أبيه الذي كان يبثّ أخباره في كنيستنا في رعايا جبل لبنان الساحليّة. القريبون من الكنيسة يعرفون ما أقوله. معظمهم، أعني الذين هم من خارج البلدة الذي نشأ هو فيها، ارتبطوا به قبل أن يعرفوه. الذي جرى بعد أن عاد من خارج في تسعينات القرن المنقضي وأخذ اسمه يلمع في المستشفى الذي يعمل فيه، أنّ ما قيل عنه انكشف أنّه ليس من مبالغات أبويّة. أن تكون أبًا موضوعيًّا، هذا سرّ الأبوّة الناضجة. كان إيلي، على غير صعيد، رجلًا يستحقّ أن يُحَبّ.

ثمّ أعطتنا الأيّام أن نتشارك في حياة رعيّة واحدة. أن يحبّك الناس لاختبارهم إيّاك بعد حاجة، هذا أمر يُفهَم بشريًّا. ولكن، لن أترك هذا الأمر يستوقفني الآن في هذه السطور. الذي يعنيني أكثر هو الشهادة لما أراه يصحّح إنسانيّتنا. كثيرون في محيطنا يعلمون بمرض الرجل الأخير. الناس في أوان المرض معظمهم يضجّون السماء والأرض في أدعية موصولة. هذا الرجل، الذي كسره المرض، أو فلأقل الذي كان يعلم بأحواله مثل الذين كانوا يعالجونه، كان قلبه إلى اللَّه هو إيّاه قبل المرض وبعد المرض. هل حبّ اللَّه تربية؟ لا أقلّل من مسؤوليّة المربّين، آباء وأمّهات…، إن قلت عن اللَّه وحبّه إنّه، قبل أيّ شيء آخر، نعمة مقبولة. لا أتكلّم فقط على مستوى الانخراط الواعي في صلاة الكنيسة أو الصلاة في سرّ القلب، بل أيضًا على الإنسان المعطى من أجل حياة الآخرين. أن يحبّك إيلي عرموني، أن يهتمّ بك في تفاصيلك، أن تراه معك في أيّ أمر يخصّك أو يخصّ مَن يخصّك، هذا ليس له علاقة بلحم ودم، أو بذوق إنسانيّ فقط، بل أوّلًا باعتقاده بشركة الكنيسة التي ينتمي إليها. يراه أناس كثيرون طبيبًا أمامهم. أمّا هو في جوهره، فكان مؤمنًا يتعاطى الطبّ. هذا، مع تثميني لكلّ رؤية صالحة، هو الأمر الأعلى في هذا الوجود. الأخ المؤمن لا يأتي فقط من علومه أو ما يعمله في هذه الحياة، بل من اللَّه أوّلًا، يأتي من اللَّه في غير حال. هل يجوز أن أقول بكلمتَين مَن هو إله إيلي عرموني؟ سأقول! إلهه مسيح قام من بين الأموات. هذا في مضامينه يعني الكثير. الذي يؤمن بأنّ المسيح قام لا يستطيع أن يرى الموت يتهدّد أيًّا من الناس، لا سيّما منهم الذين يلوذون به. يهبّ يدافع عنهم بكلّ ما أوتي من علم وقدرة. كان إيلي يخدم، في مدينة أجمل ما قيل عنها إنّها بيروت، كرجل فصحيّ. في كلّ شيء، كانت تفوح منه رائحة قيامة السيّد.

الكبار بالروح، أيًّا كان مقامهم في الأرض، يعلمون متى ينكشفون ومتى يحتجبون. هم وحدهم المتواضعون. أحبّ أن أكشف بعدُ شيئًا من أسرار حضور هذا الطبيب المتواضع في صلوات كنيستنا. لن أتكلّم، بتفصيل، على حضوره المؤمن، حضوره المحبّب، بل عليه طبيبًا. الكلّ يعلم أنّه في الكنائس تحدث أمور يحتاج حلّها أحيانًا إلى تدخّل طبيب، إن كان حاضرًا. أمام أيّ انكسار يحدث، كان إيلي عرموني يتحرّك كمسؤول. إن انوجد طبيب آخر في الكنيسة، يبقى مسؤولًا إنّما يترك للآخر المكانة الأولى. ما سرّ هذا الاحتجاب؟ قبل مدّة، حدث شيء في خدمة قدّاس الأحد. أحد الإخوة شعر بإعياء مفاجئ، تحلّق حوله ثلاثة أطبّاء. كان إيلي واحدًا منهم. تركتُ مكاني في الهيكل، واقتربت. همس إليّ ببضع كلمات سريعة. قال: «استدعينا سيّارة إسعاف. د. فلان يريد أن تُجرى للرجل فحصوص تطمئنه إلى أنّه بخير. ولكن، اطمئنّ، الرجل بخير»! هذا يقول الكثير عن رجل يصعب أن يُختصَر.

كان إيلي عرموني يعرف جيّدًا أنّ خدمة الحياة لا تقتصر على الصلاة وأن تقدّم للناس من علمك وخبرتك في الحياة، بل أن تقدّم قلبك، بل كلّك. الإنسان الحاضر يختلف جوهريًّا عن الغائب. الحاضر يعطيه وجوده أن يكون ذا معنى، أن يكون فاعلًا. لا تعدّ المرّات التي عرف إيلي عرموني فيها أنّنا نتعاضد من أجلِ مساعدةِ أخٍ وقعَ في أزمة، وقدّم نفسه مساعدًا. كلمته معروفة: «لا توفّرني. الذي تريده لفلان أو لغيره، اطلبه منّي». يقصد ماليًّا. هذا ليس كرما طبيعيًّا فقط، على أهمّيّة الكرم، بل أيضًا يتعلّق بشركة الحياة. لا أعتقد أنّ هناك إنسانًا يكون حقيقيًّا إن عزل نفسه عن الذين يشاركهم في الحياة. هل تعلمون ما هو الفارق بين الذين يتعاطى الطبّ مهنةً والطبيب الذي يؤمن بشركة الحياة؟ الأخير لا يرى المرضى أجسادًا أو جثثًا، بل لحمًا من لحمه. الطبيب الحقيقيّ يحيا في تنازل أخويّ أو أبويّ من أجل شفاء العالم.

عندما قرّرتُ أن أكتب هذه السطور إلى قرّاء «مجلّة النور» الغرّاء، كان هدفي أن أشهد للَّه الذي يجد لنفسه طريقًا إلينا عبر وجوه منّا تحيا بين ظهرانَينا. أحببتُ أن أعلن الموجود، أي أنّ اللَّه، الذي نعرف أنّه حيّ في الصحارى وهياكل الكنائس، هو حيّ أيضًا في «صحن الكنائس»، في إخوةٍ يحيون في مدى عينَينا. سبقنا إيلي عرموني إلى اللَّه. هذا سرّ الحياة الجديدة أنّ الذين يحتجبون عنّا لا يفقدون موقعهم في جسد المسيح. كيف يكون المحتجب حاضرًا؟ هذا سرّ نكتشفه في شركة المحبّة، أي شركة الصلاة، إلى أن يحين موعد التلاقي.

مجلة النور العدد الثاني – 2023
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content