بعد أن نزل يسوع وتلاميذه من جبل التجلّي، سألوه: "لماذا يقول الكتبة إنّه يجب أن يأتي إيليّا أوّلاً؟". أجابهم: "إنّ إيليّا آتٍ، وسيُصلح كلّ شيء. ولكن، أقول لكم إنّ إيليّا قد أتى، فلم يعرفوه، بل صنعوا به كلّ ما أرادوا"... ففهم التلاميذ أنّه كلّمهم على يوحنّا المعمدان (متّى 17: 1- 8، و10- 13).
هذان السؤال والجواب يبدو، ظاهرًا، أنّ إطارهما تعليميّ. فالتلميذ شأنه أن يسأل معلّمه عن كلّ أمر يسمعه، أو يثيره، أو يقلقه. وهذا ما فعله تلاميذ يسوع. ويمكننا أن نلاحظ أنّهم بنوا سؤالهم على ما يقوله الكتبة عن نبيّ قديم، إيليّا. هل ترائي إيليّا على جبل التجلّي، أمام يسوع ربّ العهد القديم والعهد الجديد، هو الذي حرّكهم إلى أن يطرحوا سؤالهم علنًا؟ ربّما. لكن، ما يبدو ثابتًا أنّهم أرادوا معلّمهم أن يقطع في أمر له تفسيرُهُ عند غيره. فإيليّا، وفق الكتب القديمة، نبيّ توقّع الناس، بعد أن رُفع إلى السماء (2ملوك 2: 11- 13)، أن يأتي ثانيةً، ويمهّد الطريق لمسيح الله. هذا ما رآه نبيّ قديم بقوله: "هاءنذا أُرسل إليكم إيليّا النبيّ قَبْلَ أن يأتي يوم الربّ العظيم الرهيب، فيردّ قلوب الآباء إلى البنين وقلوب البنين إلى آبائهم، لئلاّ آتي وأضرب الأرض بالتحريم (أي بالموت والدمار)" (ملاخي 3: 23 و24).
قال التلاميذ: "يقول الكتبة إنّه يجب أن يأتي إيليّا أوّلاً". وهذه الـ"يجب" تدلّ على أنّ مَنْ ذكرهم تلاميذ يسوع بنوا نظرتهم إلى ما سيحدث في الأزمنة الأخيرة على الكتب القديمة، ولا سيّما ما قرأناه في نبوءة ملاخي. هل يتضمّن سؤال التلاميذ إشارةً إلى أنّ الكتبة يؤمنون، حقًّا، بما يقولونه؟ من دون أن ندخل في بحث تفصيليّ قد يراه بعض القرّاء شاقًّا، يمكننا أن نكتفي بتأكيد أنّ الكتبة، وسواهم من رؤساء اليهود في زمانهم، عادوا، لأسباب عديدة، ولا سيّما اعتبارهم أنّ المسيّا قد تأخّر في مجيئه، يعتقدون أنّ هذا المجيء أمرٌ غير واقعيّ إطلاقًا. وهكذا عبارة "يأتي إيليّا أوّلاً" غدوا يرادفونها بـ: "لن يأتي بتاتًا".
هذا، ما من شكّ في أنّ الربّ يعرفه. فقوله: "إنّ إيليّا آتٍ، وسيصلح كلّ شيء. ولكن، أقول لكم..." يجب أن نرى فيه ردًّا يؤكّد حقّ ما جاء في الكتب القديمة، وتاليًا يفضح ادّعاء الكتبة الذين يقولون ما يقولونه اعتراضًا على شخص الكلمة المتجسّد، أي إنّهم بقولهم إنّ "إيليا يجب أن يأتي..." يريدون أنّ المسيح لم يأتِ (أو، كما قلنا، "لن يأتي بتاتًا")! طبعًا، لم يعنِ الربّ، بقوله ما قاله، أنّ إيليّا قد أتى في ترائيه على جبل التجلّي (الذي عاينه ثلاثة من تلاميذه)، بل في ظهوره، علنًا، بين الناس في شخص المعمدان. هل يمكننا أن نقرأ كلام الربّ على أنّه يعني أنّ إيليّا نفسَهُ قد أتى؟ لا. فجوابه، قائمًا في ما قاله ملاخي، لا يحيد عن أنّ شخصًا سيسبق مجيئه. هذا يردّ كلّ فكرة "التقمّص" التي يجهلها التراث اليهوديّ كلّيًّا.
لم يكتفِ الربّ، في جوابه، بأنّ إيّليا قد أتى، أي أنّ يوحنّا السابق قد أتى، بل أضاف إليه أنّهم (أي اليهود) "لم يعرفوه، بل صنعوا به كلّ ما أرادوا". وهذا، الذي يحكم ما قلناه آنفًا، يكشف كلّ ما جرى للمعمدان شخصيًّا. لقد لاحظنا أنّ النبيّ ملاخي قال إنّ إيليّا سيصنع الخير بردّه قلوب الآباء والبنين بعضها إلى بعض. أمّا اليهود، فرفضوا مَنْ تحقّقت نبوءة ملاخي فيه (أي، لا بأس إن كرّرنا، رفضوا المعمدان نفسه)، وقتلوه. هذا لا يعني أنّهم استطاعوا أن يدمّروا تحقيق النبوءة. فيوحنّا قد أتى، وأتمّها. بأيّ معنى؟ بمعنى أنّه أعدّ مجيء الربّ الذي سيحقّق هو نفسُهُ ما افتُرض أنّ إيليّا سيحقّقه. فالربّ يسوع، وليس غيره، هو الذي سيضمّ القلوب إلى القلوب، ويجعل الناس جميعًا عائلة الله. هذا، وإن كان الإنجيليّ متّى قد اكتفى ظاهريًّا هنا بأن يوازي بين إيليّا ويوحنّا، قائم في رؤيته والعهد الجديد حرفًا فحرفًا.
هل ثمّة أمر آخر يمكن أن يتضمّنه جواب يسوع؟ ثمّة أنّ ذكره أنّ اليهود قد قتلوا المعمدان يوحي، ضمنًا، بأنّهم سيفعلون فيه الأمر ذاته. هذه واحدة من المقابلات الإنجيليّة العديدة التي تجمع ما بين يوحنّا ويسوع. أليس من أجل هذا قال متّى الإنجيليّ نفسه: إنّه، عندما "بلغ يسوعَ خبرُ اعتقال يوحنّا...، بدأ، من ذلك الحين، ينادي فيقول: توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات" (4: 12- 17)؟ لقد بدأ يسوع يكرز ببشارة المكلوت بعد اعتقال يوحنّا توًّا. وهذا بدءٌ يستبق النهاية. لقد تعوّدنا أن نفسّر لفظة "السابق" بأنّها تعني أنّ يوحنّا أتى قَبْلَ الربّ، ليعدّ طريقه أمامه. ويجب أن نضيف إلى عادتنا أنّ اللفظة تحمل، أيضًا، معنى التمهيد لموت مرتقب ينتظر يسوع. طبعًا، لم يفهم التلاميذ، حينئذٍ، كلّ ما أراده يسوع في جوابه (فالربّ، وحده، هو الذي كان يعي ما سيحدث له). توقّفوا عند أنّه "كلّمهم على يوحنّا المعمدان". ولكنّهم سيفهمون كلّ شيء عندما سيرون معلّمهم وربّهم معلّقًا على خشبة خلاصنا.
كانا سؤالاً وجوابًا. لكنّ الربّ، الذي علّم رسله الحقّ، يريدنا أن نتعلّم الحقّ عليه أيضًا. لقد اعتقد الكتبة أنّهم مبرِّزون في العلم. فرفضوا يوحنّا، ورفضوا يسوع. وقتلوا يوحنّا، وقتلوا يسوع. ويسوع باقٍ يقتله كلّ مَنْ يرفض كلمته المحيية! ليس لنا من معلّم آخر وربّ آخر. لا يريد الربّ أن يضرب الأرض بالموت والدمار، بل يريد جميع سكّان الأرض أن يتجلّوا بطاعة حقّه. قال متّى الإنجيليّ، بعد هذين السؤال والجواب، إنّ التلاميذ "فهموا أنّه كلّمهم على يوحنّا المعمدان". ومَن هو المعمدان سوى صوت، يلاقي كلّ صوت غار على الحقّ (إيليّا وسواه)، لتصالح قلوبنا الله الظاهر في شخص ابنه الوحيد؟
(نشر المقال في نشرة "رعيّتي" التي تصدرها مطرانيّة جبيل والبترون (جبل لبنان) )