مِنْ ضمن وصايا عديدة سطّرها بولس، طلب من تلميذه تيموثاوس أن يوصي المؤمنين بأن يعتنوا بذويهم، بقوله: "إذا كان أحد لا يُعنى بذويه، ولا سيّما أهل بيته، فقد جحد الإيمان وهو شرّ من غير المؤمن" (الرسالة الأولى 5: 8).
ما يبدو، مؤكّدًا، أنّ هذه الوصيّة تتعلَّق بإعانة الأرامل المحتاجات تحديدًا. فوجودهنّ ظاهر في حياة الكنيسة الأولى، كما يظهر في سياق النصّ (5: 3- 16؛ أنظر أيضًا: أعمال الرسل 9: 39- 41؛ يعقوب 1: 27)، وفي كتابات الأوائل (أنظر مثلاً: الرسالة المنسوبة إلى برنابا 20: 2؛ رسالة القدّيس إغناطيوس إلى أهل أزمير 6: 2، 13: 1؛ ورسالته إلى بوليكربُس 4: 1، 8: 2؛ وكتاب الراعي لهرماس، الرؤيا الثانية 4: 3). ويريد بولس أن تسندهنّ جماعة المؤمنين، أي أن تقدّم لهنّ كلّ ما يحتجن إليه من مال ورعاية، لا سيّما أن تحضّ مَنْ يخصّهنّ، أولادًا كانوا (الآية الـ14) أو أحفادًا وأقرباء (الآية الـ16)، على القيام بواجبهم نحوهنّ، ويساعدوهنّ، إن كانوا مؤمنين بالله، وقادرين على المساعدة.
على كون طلب الرسول يحضّنا على إعانة الأرامل، ولا سيّما المسنّات، إلاّ أنّ هذا لا يمنعنا، توسيعًا للفائدة، من أن نعتبر أنّ كلامه لا يختصّ حصرًا بالأرامل اللواتي تربطنا بهنّ قرابة جسديّة، بل بكلّ قريب ليس له مَنْ يعينه، وتاليًا بكلّ محتاج في الأرض.
مَنْ يقرأ هذا الطلب الملزم بإمعانٍ، لا يفتْهُ أنّ الرسول ميّز بين "اللواتي هنّ أرامل حقًّا"، أي المستحقّات اللواتي حُرمن كلّ معونة عائليّة، وبين اللواتي لا يستحققن المعونة. فثمّة أرامل حقيقيّات تشهد لهنّ الجماعة بالتزامهنّ واختيارهنّ حياة الفضيلة، وثمّة مَنْ كنّ ما زلن فتيّات وحياتهنّ مضطربة.
غير أنّ هذه الوصيّة، في الواقع، تلتقي، أو تتفرّع من وصيّة إكرام الوالدين (خروج 20: 12؛ أحبار 19: 3؛ تثنية الاشتراع 5: 16؛ متّى 19: 19؛ لوقا 18: 20؛ أفسس 6: 2). فالوالدان، متى كبرا أو ترمّل أحدهما، إعانتهما طلب إلهيّ، وواجبة في كلّ حال. ولا يعني هذا أن يقدّم الأولاد لوالديهم الاحترام في صغرهم، أو ما داموا هم يلوذون بهم فحسب، بل، أيضًا، أن يساعدوهم، إذا شبّوا، وغدوا منتجين، ولا سيّما إن بات ذووهم "في ضيق" (الآية الـ10؛ أنظر أيضًا: متّى 15: 1- 9). فلا يليق بِمَنْ آمن بالله أن يهمل "أهل بيته". فإن كان الله يطلب أن يحبّ المؤمن جميع الناس من دون تمييز، وأن يساعد المحتاجين منهم على قدر استطاعته، وأن يساعدهم كثيرًا إن كان قادرًا، فهو، بالأحرى، يطلب منه أن يحبّ أهل بيته، ويعتني بهم وبأمورهم أوّلاً. هذا من باب الإكرام الواجب، لئلاّ يبدو الولد عقوقًا، أي لئلاّ يشقّ عصا طاعة ذويه، ويتركهم، بلا شفقة عليهم أو إحسان إليهم، ويستخفّ بهم. وهذا كلّه، إن حدث، عصيان لله الآمر.
هذا ما دفع بولس إلى أن يقول، في مَنْْ يهمل ذويه، إنّه: "قد جحد الإيمان". وذلك بأنّ الإيمان ليس تصديقًا ذهنيًّا أنّ الله موجود فحسب. فحقّه يفترض، أيضًا، أن يظهر في حياة الإنسان وممارساته كلّها، ولا سيّما في علاقته بِمَنْ يخصّونه. فإذا بدا المؤمن أنّه يعرف كلّ علم، ومحا حجارة الكنيسة بمجيئه إليها ومشاركته في صلواتها وأنشطتها، لا يكون شيئًا في عيني الله، إلاّ إذا أظهر، في حياته، أنّ الربّ ربّه، وبيّن إدراكه في كلّ أقواله وتصرّفاته. وهذا من معانيه أنّ المؤمن، إن أحبّ ذويه (وكلّ إنسان)، وساعدهم على غير صعيد، لا يعتبر أنّ ما يعمله دافعه ما تعلِّمه هذه الدنيا من أخلاق، أو تقوله من خير، بل الله الذي يؤسِّس عليه حياته وكلّ ما يفعله في هذا الوجود. المسيحيّ لا ينكر على الدنيا خيرها. لكنّه لا يطلع منها، بل يهبط عليها من السماء. ومعنى ذلك أنّه يؤسِّس حياته على شريعة المسيح التي شرط إتمامها أن "يحمل بعضنا أثقال بعض" (غلاطية 6: 2). ولذلك إذا جار المؤمن عن هذا الطريق، يكون "جاحدًا إيمانه"، وتاليًا "شرًّا من غير المؤمن". وذلك، ببساطة، لأنّ غير المؤمن، إن لم تتسنَّ له فرصةُ معرفةِ مشيئةِ الله، فقد يخفّف جهله شرّه. أمّا المؤمن، فمن واجبه أن يعرف كلّ شيء. ولذلك شرّه، إذا عصى، يفوق، بما لا يقاس، شرّ مَنْ لا يعرف. شرّه أنّه يعرف، ويتصرّف كما لو أنّه لا يعرف. وليس من جهل وإهمال يزكّيان.
مِنْ مقتضيات الحقّ، في زمنٍ كثرَ فيه التبرير وتفضيل الذات، أن تكون هذه الوصيّة أوّل واجب يذكره الذين بنوا قلوبهم على صخرة الحقّ. فليس من واجب أعلى من واجب المحبّة، ولا سيّما محبّة "أهل البيت". وإذا خصّصنا تكريم الوالدين بعد كبر، فنرى أنّ إعانتهما واجب مسجّل في لحمنا ودمنا منذ تكويننا، أي أنّ الله فطرنا عليه. وهذا لا يقوله، ببلاغة، أن نؤمّن لهما حاجاتهما المادّيّة فحسب (إن كانا محتاجَيْن)، بل، أيضًا، أن نعتني بهما، وأن نزورهما باستمرار، إن كانت لنا بيوتنا، وأن نخصّص لهما كلّ الوقت إن مرض أحدهما، وأن نحتضنهما في بيوتنا إن عجزا، أو عجز أحدهما، أو ترمّل. فَمَنْ كانا لنا بيتًا، لا يليق بنا وبهما أن نرميهما في عجزهما بعيدًا منّا. حضنهما يغنينا وَمَنْ لنا وإلينا، ويبارك دعاؤهما الطيّب حياتنا، ويزيداننا من حبّهما الذي هو زاد لنا ودواء إذا أثقلتنا الهموم، وضاقت بنا الأيّام، وأرهقتنا المصاعب.
أن نعتني بأخصّائنا جميعًا (وكلّ محتاج يخصّنا)، ولا سيّما الأرامل اللواتي هنّ "هيكل للربّ"، كما يقول القدّيس بوليكربُس (أنظر: رسالته إلى أهل فيلبّي 4: 3)، دليل صريح على إيماننا بالله الذي ضمّنا إليه بعد أن عجّزتنا الخطيئة، وجدّد لنا، بحبّه، شبابًا لا يشيخ.