22يوليو

أن نبقى أطفالاً!

عندما كنّا صغارًا في الالتزام، قال لنا أحد مرشدينا المعتبَرين مرّةً: "أدركوا مشيئة الله. اتّكلوا عليه في كلّ شيء. ارموا عليه ثقلكم. اسألوه ماذا يريد منكم. إنّه قريب. إنّه أقرب إليكم من أنفسكم".

أعتقد، بتواضع، أنّ هذه الكلمات-الوصيّة يمكننا أن نقيس عليها أمور حياتنا كلّها. فنحن، في أمور عديدة، غالبًا ما نعلّي مشيئتنا الشخصيّة على مشيئة الله. نعتقد، للأسف، أنّنا أذكى من الله، أو أكثر غيرةً منه على أنفسنا. ماذا يريد الله منّي؟ هذا سؤال ينبغي لي أن أضعه أمام عينيَّ في غير أمر.

لا أريد أن أزكّي زمانًا، وأقطع الخير عمّا بعده. لكن، بصدق، كانت هذه الوصيّة دواءً ناجعًا فعلاً. هل الصغار هم الذين يدركون غنى قلوبهم؟ أودّ أن أجيب بثقة: نعم! وتنفعنا، هنا، كلمة الرائيّ: "ولكنّ مأخذي عليك أنّك تركت حبّك الأوّل" (رؤيا يوحنّا 2: 4). فالالتزام قوّته تكمن في استمراره مطلعًا. ولا بدّ من أنّ الرائيّ، في توبيخه المبيَّن، قصد أنّ المسيحيّة هي هكذا كلّها. المسيحيّة تأبى الشيخوخة، شيخوخة القلب التي لا تنحصر بعمر. "تركت حبّك الأوّل" الذي ما من حبّ حقيقيّ بعده. هذا عينه نجده في كلمات يسوع: "إن لم ترجعوا فتصيروا مثل الأطفال، لا تدخلوا ملكوت السماوات" (متّى 18: 3). هذه قالها الربّ ردًّا على سؤال تلاميذه: "مَنْ تراه الأكبر في ملكوت السماوات؟". معظم الناس يحرقون مراحل أعمارهم بأوهام كبيرة. والنضج، النضج الحقيقيّ، يكمن في طفولة لا ترضى أن نخلّفها.

ماذا يعني أن نكون أطفالاً دائمًا؟ يعني أن نؤمن، إيمانًا مطلقًا، بأنّ الله أبونا. ربّما يكون هذا الجواب مألوفًا كثيرًا. ولكن، حسبي أنّ ما هو غير مألوف كثيرًا، في الممارسة وليس في الفهم بالضرورة، أن نركن إلى الله الآب، في غير أمر، كما يركن الطفل الصغير إلى أمّه وأبيه. كلّ العلاقة بالله إنّما تقوم على أن نثق به ثقةً كلّيّةً، كما يثق الطفل بذويه. نثق بأنّه يحبّنا. نثق بأنّه معنا وفينا. نثق بأنّه يتابعنا في تفاصيل حياتنا، يريدنا كلّيًّا له. ونثق بأنّه لا يبخل علينا بأيّ شيء ينفعنا، ويعظّمنا. الأب لا يرضى أن يضلّ أولاده، أن يتوهوا في غياهب الأرض، أن يموتوا عراءً وبردًا. ألم يقل يسوع بعد أن علّم تلاميذه أن يصلّوا الصلاة الربّيّة: "فأيّ أب منكم إذا سأله ابنه سمكةً أعطاه حيّة؟ أو سأله بيضةً أعطاه عقربًا؟ فإذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تعطوا العطايا الصالحة لأبنائكم، فما أولى أباكم السماويّ بأن يهب الروح القدس للذين يسألونه" (لوقا 11: 11- 13)؟ الآب لا يشبهه أيّ أب آخر، بل يفوق كلّ آباء الآرض في حبّه وفي أمانته وفي وفرة هباته. يهب الروح القدس، أي روح الفهم، أي روح القداسة، أي روح أن نبقى أولاده أبدًا.

سرّ الطفولة في اتّكالها الدائم، إذًا. وهذه مشيئة الله: أن نتّكل عليه في كلّ شيء. هل نحن نتّكل على الله دائمًا؟ فلنحفظ هذا السؤال في قلوبنا، ونطلقه في أوانٍ موافق! أعتقد أنّ قوّة المؤمن ليس في أن يذكر الله في الأوان الصعب، فكلّ الناس ربّما يفعلون ذلك، بل أن يرمي عليه ثقله كلّه، أي أن يجرؤ، في الأوان الصعب، على أن يرمي عليه ثقله كلّه. هذا أمر آخر يفوق أمر الذكر اللفظيّ أهمّيّة. لا يكفي، إن مررتُ بأزمة ما، أن أسأل الربّ مثلاً: "يا ربّي، لماذا أنا مأزوم؟". فعلى أهمّيّة السؤال، يجب أن أزيد في قولي، وأفصح: "يا ربّ، أنت تعرف كلّ شيء. هذه الأزمة، أزمتي، أنا ألقيها كلّها عليك. أنت، يا ربّ، حلّها، وفق ما أنت تشاء"! وفي هذا أيضًا، قال يسوع: "احملوا نيري" (متّى 11: 29). والنير هو الخشبة المعترضة في عُنُقَيْ الثورين بأداتها (أنظر: تثنية الاشتراع 21: 3). وهذه اللفظة (النير) أخذها الربّ من العالم الزراعيّ. رأى يسوع أنّ مزارعي الأرض، إذا أرادوا أن يدرّبوا ثورًا صغيرًا على العمل، يجعلونه يمشي إزاء ثور مختبر. ولئلاّ يحيد الصغير عن الكبير، يضعون خشبةً (نيرًا)، تجمع الاثنين، يكون ثقلها على الكبير فحسب. وبهذا الأخد، يكون يسوع قد أرادنا أن نتّكل عليه، في حياتنا كلّها، أي أن نمشي قربه، أن نلتصق به، واضعين كلّ ثقلنا عليه دائمًا. كلّ الحياة في المسيح تكمن في هذا السير، في هذا الالتصاق، في هذه المرافقة التي يكون فيه السيّد حاضرًا، ومعينًا، ومربّيًا، أي يكون هو القويّ الذي يشدّدنا في ضعفنا.

كلّ هذا نبعه أنّ الله شاركنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة (عبرانيّين 4: 15). لم يأتِ إلينا فحسب، بل مات أيضًا، بل نزل إلى أقصى الجحيم، لنفهم أنّه بات نزيل كلّ موت يضربنا، وجحيم يحتجزنا. الله برهن أنّه يحبّنا، "حتّى الموت، موت الصليب" (فيلبّي 2: 8). برهن أنّه يحبّ كلاًّ منّا شخصيًّا. وأنا، أمام هذا الحبّ العظيم، ليس لي أن أطلب برهانًا آخر على أنّ الله يحبّني. في علاقتي بالله، أنطلق، دائمًا (أو يجب)، من أنّه مات عنّي، وسكن جحيمي، ليرفعني إليه. وهذا لا أراه يختصّ بماضٍ بعيد، بل يظلّل كلّ تاريخي، حاضري ومستقبلي. إنّه معي دائمًا. إنّه فيّ. لم نبقَ اثنين. لقد تنازل إلى أن يوحِّد ذاته بي. بات الله الآب، إذا تطلّع من سمائه، يرى ابنه فيّ. الله يحبّ ابنه (يوحنّا 3: 35)، صارت، عندي، أنّه يحبّني. أنا، بنعمته، ابنه أيضًا. هذا جنون التنازل الذي دعوتي أن أحيا به دائمًا. الله مجنون، أجل مجنون بي! ولقد بلغ به الجنون أنّه، إن تركته، لا يتركني. إن تركته، فسيتبعني إلى أيّ مكان يغريني أن أنزل فيه. لن يترك تلّةً، جبلاً، شارعًا، زقاقًا، قبرًا، جحيمًا. إن تركته، فسيترك الكون، ليجدني. إنّه أبي، إنّه إلهي، وإنّني كلّ شيء عنده.

كنّا أطفالاً صغارًا يوم علّمنا أخ أن نبقى أطفالاً في علاقتنا بالله. يبقى أن نبقى!

- مجلّة النّور، العدد الخامس، ٢٠١١
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content