مِنَ الأقوال الملهبة، في رسالة يوحنّا الرسول الأولى، قوله: "أكتب إليكم أيّها الشبّان: إنّكم أقوياء، وكلمة الله مقيمة فيكم، فقد غلبتم الشرّير" (2: 14).
مَنْ حاول أن يبحث عن هذا القول في مصنّفات التفسير، لا يشكّ في أنّ علماء كثيرين رأوا فيه كلامًا عامًّا، أي يخصّ المسيحيّين جميعًا. وسندهم أنّه يندرج ضمن مقطع لا يقتصر توجّهه على فئة، أي الشبّان حصرًا (أنظر: الآيات 12- 14). غير أنّ هذا الحقّ، الذي لا يخالفه من كره تصارع الأجيال، لا يمنعنا من تخصيص الشبّان ضمنًا. ولربّما خير ما يساعدنا على ذلك هو رجاؤنا أن نبقى على "طفولة" نعرف أنّنا لن "نستطيع، من دونها، أن نستقبل ملكوت الله" (الأب ألكسندر شميمن، بالماء والروح، صفحة 21).
أوّل ما يجب تأكيده، هو أنّ الالتزام المسيحيّ يأبى جهل مطالب الله، أو تبرير إهمالها، أو قبولها في مرحلة من العمر دون أخرى. فأنت، مؤمنًا، دعوتك أن تسعى إلى أن تلتزم محبّة الله في حياتك كلّها. أجل، كلّ التزام راضٍ يقتضي، أوّلاً، أن يعرف المرء شيئًا عن إلهه، أو فكر إلهه. وهذه المعرفة، التي يصعب التزام من دونها، تفترض، لزامًا، أن تتبعها معرفة شخصيّة للربّ، وأن تهدف إلى أن يكون مصير كلّ إنسان مرتبطًا بمصير ذاك الذي أحبّنا "حتّى الموت، موت الصليب" (فيلبّي 2: 8). وهذا لا يوافقه، مثلاً، أن يرمي أحدٌ تبعة جهله وإهماله على أهله، أو كنيسته. فالمرء، متى شبّ، يغدو مسؤولاً عن نفسه. ولست، بهذا، أهمل مسؤوليّة الأهل (أو الكنيسة) عن رعاية أولادهم دائمًا. ولست، به، بموافق على ما شاع، في بلدان العالم، من أنّ الفتى، إذا بلغ سنّ الرشد، يلزمنا إيماننا بحرّيّته أن نتركه يختار الديانة التي تنسجم وذوقه. فنحن نحيا، في مجتمع، الإنسانُ يدين، فيه، بدين ذويه. وما من أحد يجهل أنّ المسيحيّة، التي تقدّم خلاص الله لجميع الناس، معروفة فيه منذ انطلاقتها (أعمال الرسل 11: 26). ومن رَبِيَ في بيتٍ أهلُهُ يلتزمون كنيستهم، تعبّد له ظروف حياته دروب الالتزام. ومن لم ينل جوًّا مشابهًا، فمسؤوليّته تبقى أن يجتهد هو، ويبادر، ليسترجع ما جهله له ولغيره. فإنّ الله لا مانع، عنده، من أن يكون الشابّ هو مرشد ذويه إلى التزام الحقّ والعيش في رحابه.
هذا كلّه يجب أن نضمّه إلى قلوبنا فيما نقرأ قول الرسول الذي بنينا عليه هذه السطور. وأوّل ما يجب أن نذكره هنا، في سياق استكشاف معنى هذا القول، هو أنّ الربّ، الذي قهر إبليس بإتمامه تدبير أبيه، إنّما يطلب ألاّ نستخفّ بغلبته التي هدانا إيّاها مجّانًا. صحيح أنّ الغلبة الأخيرة سوف يكشف الله حقّها الكامل في اليوم الأخير. ولكنّ دعوتنا أن نؤمن بها، أي نحيا في جوّها (الأخير) منذ الآن (1كورنثوس 15: 57). وعليه، وصف الرسول "الشبّان" بأنّهم أقوياء. ولا يعوز هذا الوصف تأكيدٌ أنّ القوّة المقصودة، التي لا تحتمل تبرير أيّ ضعف، أساسها أنّ "كلمة الله مقيمة فيهم". فما من إنسان، شابًّا كان أو كهلاً أو شيخًا، قويًّا بفضل جهده وحده. هذا، بالتأكيد، قائم في قول الرسول. ولا نسقط عليه ما لا يقصده إن رأينا أنّ سبيل هذه الإقامة يفترض أن نتعلّم ما تطلبه الكلمة على أيدي معلّمين ذوي خبرة، وأن نربط حياتنا بها في قراءات يوميّة، وأن نرجو ثباتها فينا في أوان الشدائد والمحن. هذه الحقيقة الواحدة، في أبعادها المبيّنة، هي قوّتنا التي لا بديل لنا منها. وهذا لا يؤهّل من اهتدى إلى هذه الأبعاد المنجّية، والتزم حقّها، لأن يطمئنّ إلى حاله، أو يشعر بأنّه فوق كلّ إغراء خاطئ. فشأننا جميعًا أن نفهم، دائمًا، أنّ كلمة الله هي قوّتنا التي تمكنّنا من أن نجاهد (1تسالونيكي 2: 2)، ونكون أولادًا في الشرّ (1كورنثوس 14: 20)، لنبقى في شركة مع الله (1كورنثوس 1: 9)، ونرث الفرح الحقيقيّ (فيلبّي 4: 4). وهذا ما بيّنه المغبوط أغسطينوس، في شرحه الآية عينها، بقوله: "تأمّلوا مليًّا بأنّكم شبّان، وجاهدوا في سبيل النصر. انتصروا، لتربحوا الإكليل. وتواضعوا، كيلا تخسروا المعركة" (رسالة القدّيس يوحنّا الأولى، المقالة الثانية: 7).
المسيحيّة، فكرًا وممارسة، قوامها أن تكون حياة كلّ إنسان على مثال الكلمة. هل في قول الرسول دعوة إلى حفظ التعليم القويم سالمًا من كلّ لغو؟ تأكيده أنّنا قد غلبنا الشرّير، الذي هو ينبوع الشرّ وباعث الهرطقة، يؤكّد ذلك. وإذا استرجعنا ذكر الحقيقة في أبعادها الثلاثة، فالسؤال، الذي يطرح ذاته، هو: كيف يحفظ شابّ التعليم قويمًا إن لم يكن ملتزمًا حياة كنيسته وفكرها ومناقبيّتها؟ أنت، مؤمنًا، لا بدّ من أنّك تعرف أنّ الدنيا تعجّ بالكلمات، وتتقاذفها "أمواج المذاهب" (أفسس 4: 14). ويجب أن تبقى تعرف أنّ شأنك الوحيد أن تفضح انحراف كلّ كلام غريب بـ"كلمة الله" التي تقيم فيك. إنّها الدعوة الدائمة إلى التزام حياة الكنيسة القادرة على أن تؤهّلك للغلبة. فما من غلبة بعيدًا من شركة الله وقدّيسيه ونصح الإخوة الحارّين بالروح وإرشادهم. البعد غربة وإمكان استسلام للعالم و"رئيسه". خلاصنا رهن بقربنا، وبقربنا فحسب. وهذا لا يقرّره أحد عن غيره. التعليم المسيحيّ وجد، ليستقرّ في قلوبنا. إذ لا قيمة لقلوبنا إن لم تستقرّ فيها محبّة الله. وكم يطيب لله أن نحبّه شبابًا. وكم يطيب له أن نبقى، مهما حيينا، ثابتين على حبّه. إنّه سبيلنا الوحيد، لئلاّ نشيخ. القلب، الذي يحيا على محبّة الله، يبقى شابًّا. "أكتب إليكم أيّها الشبّان"، لتبقوا شبابًا بروحكم الملتهبة بمحبّة الله. هذا هو المعنى الأخير لقول الرسول، المعنى الذي يرسم لنا سبيل الرجاء أن نبقى أقوياء وغالبين الآن وغدًا.
لقد كتب الرسول إلى الشبّان، ويبقى أن نقرأه، ونحيا على هُداه.