ربّما مسيحيّون كثيرون، يحيون بيننا اليوم، يعتبرون أنّ قول يسوع: "أحبّوا أعداءكم"، كلام متخلِّف وغير منطقيّ. ويتصوّرون أنّ تنفيذه غير ممكن، عمومًا. وذلك بأنّهم، من دون تعميم أو إدانة، يقيسون برَّ الله والتزام مقتضياته على إمكاناتهم الشخصيّة، ولو كانت هذه الإمكانات غريبة عن الحقّ أو غارقة في فكر الأرض. ويعلّلون أنفسهم بالقول إنّ: "الزمان، الذي عاش يسوع فيه، يختلف عن زماننا اختلافًا كلّيًّا". ويبدو أنّ هذه الموقف أخذ يمنع إخوةً لنا من اكتشاف ما هو أسمى من قناعاتهم وقوانين مجتمعهم، أو الاتّكال على الله "القادر على كلّ شيء".
كيف يرى المؤمن أنّ المسيح صادق في كلّ ما قاله، ولا سيّما في هذه الوصيّة ("أحبّوا أعداءكم") التي قال فيها أحد المنتسبين إلى الأرثوذكسيّة جديدًا: إنّ المسيحيّة تمتاز بأنّها علّمتني أن أحبّ الذي يرفضني، ويعاديني؟ هذا هو السؤال الذي سنحاول، في ما يلي، أن نسعى إلى أن نجيب عنه.
أمر يسوع تلاميذه (أي المسيحيّين جميعًا)، في عظة الجبل، بأن يحبّوا أعداءهم (متّى 5: 44)، وذلك بعد أن ردّد أمامهم تعليمًا سائدً. قال: "سمعتم أنّه قيل: أحبب قريبك وأبغض عدوّك". ويعرف قارئو العهد القديم أنّ العبارة الأولى "أحبب قريبك"، هي اقتباسٌ من شريعة موسى (لاويّين 19: 18). ولقد اعتبرها يسوع، في مقام آخر، الوصيّة الثانية العظمى (متّى 22: 39). وأمّا العبارة الثانية (أبغض عدوّك) التي تعني في اللغة العبريّة عمومًا: "أحبب أقلّ"، فلا نجدها حرفيًّا في الكتب القديمة (ربّما هي قول شعبيّ ردّده الناس في زمن يسوع). ومن المعلوم أنّ اليهود، الذين حرّفوا بتفسيراتهم كلمة الله، ميّزوا أنفسهم عن الأمم الوثنيّة (القريب، مثلاً، عندهم، هو، حصرًا، الأخ أو ابن العمّ أو ابن القبيلة)، واحتقروهم، وأبغضوهم، واعتبروا أنّ أعداءهم أعداءُ الله (في مخطوطات قُمْرَان، نقرأ أنّ مَن ينتمي إلى هذه الجماعة يَعِدُ "بأن يحبّ كلّ أبناء النُّور، كلاًّ حسب مقامه في مجلس الله، وأن يبغض كلّ أبناء الظلمة"). وهذا البغض، من دون أن نخفّف انحراف اليهود، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بمعاناتهم في التاريخ. وذلك بأنّهم تعرّضوا لحروب خاضتها، ضدّهم، أمم عدّة. ما جعلهم ينغلقون على أنفسهم، ويخسرون، بعدم اتّباعهم يسوع، دعوتهم في أن يكونوا "نورًا للأمم".
غير أنّ يسوع، الذي جاء إلى العالم ليفتتح ملكوت أبيه الذي كلّ الناس فيه متساوون في الكرامة والحبّ، ندّد بالبغض، أيًّا كان نوعه أو دوافعه، ودعا تلاميذه، وجميع الناس، إلى أن يحبّوا بعضهم بعضًا. ومَن قرأ كلمة الله، يعرف أنّ المحبّة، التي يطلبها يسوع، إنّما هي محبّة فاعلة تفوق الكلام والعواطف، ولا تميّز بين صديق، أو قريب، أو عدوّ. وذلك بأنّ أساسها أنّ الربّ يسوع "بذل نفسه في سبيلنا"، من دون أن يستأهل أحدٌ، في العالم، فداءه الخلاصيّ. فالذي أحبّنا، حبًّا مجانيًّا، نقلنا من الموت إلى الحياة، أي خلّصنا (حرّرنا) من سلطة الشرّير، وجعل فينا القدرة على رفض الموت في كلّ مظاهره (البغض والحقد والعداء...). فإن عبّر الإنسان المسيحيّ، مثلاً، عن محبّته لِأخيه، بمعناها العبريّ الضيّق، في أيّ وجه من وجوه الحياة، يَطلب منه يسوعُ أن يعمل العمل ذاته مع جميع الناس من دون أيّ تمييز. وذلك بأنّ مشاعرنا نحو الناس، أو مشاعرهم نحونا، لا تحدّد تصرفّاتنا أو شعورنا نحوهم، بل الحقيقة التي تطلبها كلمة الله.
يَعلَمُ يسوع أنّ هذا التعليم لا يجد دائمًا أذانًا تصغي. وذلك بأنّ اللحم والدم، اللذين "لا يرثان ملكوت الله" (1كورنثوس 15: 50)، قد يعيقان تنفيذه. ولذلك يدعو جماعتَهُ، توًّا، بعد الوصيّة التي تطلب محبّة العدوّ، أن يصلّوا "من أجل مضطهديهم" (أو كما وردت في إنجيل لوقا 6: 28، "صلّوا من أجل المفترين الكذبَ عليكم"). وما من شكّ في أنّ يسوع لا يضع، في هذه الدعوة، وصيّة جديدة نلتزمها عوضًا من وصيّة محبّة الذين يعادوننا (إن كنّا نستصعبها!). لكنّه يعلّمنا ألاّ نرضخ لمشيئة لحمٍ ودم، ونُبقي قلوبنا، التي يراها الله ويعرف قدراتها، مفتوحة على كلّ مَن يرفضنا، ويعادينا. وفي هذه الدعوة، يكشف أنّ الله، الذي نتوجّه إليه في الصلاة، حاضر ليعيننا، ويبدّد كلّ صعوبة قد تعترضنا، وتمنعنا من طاعة وصاياه. والصلاة من أجل شخص لا يحبّك (عدوّك) قد تجعله يفتح قلبه لله، ويُنقَذ من موت لا يعلم أنّه فيه. إنّ الطريقة الفضلى، التي تواجه فيها افتراء أحد أو عداوته، هي أن تعمل على تحويله إلى أخ. يقول الرسول بولس، الذي عاش قوّة هذه الوصيّة: "لا تبادلوا أحدًا شرًّا بشرٍّ، واحرصوا على أن تعملوا الصالحات بمرأى من جميع الناس... لا تنتقموا لأنفسكم أيّها الأحبّاء، بل أفسحوا في المجال للغضب... لا تدع الشرَّ يغلبك،بل اغِلِب الشرّ بالخير" (رومية 12: 17- 21).
إنّ المسيحيّين الحقيقيّين أطبّاء العالم. فهم، كما يوصيهم ربّهم، لا يحبّون الذين يحبّونهم وحسب (فهذا يفعله الخطأة والوثنيّون)، بل كلّ عدوّ، أو مفترٍ، أو كافر... هذا وحده يمكّنهم من أن "يصيروا بني أبيهم الذي في السموات".