28أغسطس

آية يوحنّا

            بعد خطاب ردّ فيه الربّ على مَنْ سألوه إن كان هو المسيح، يروي الإنجيليّ أنّ يسوع: عَبَرَ الأردنّ مرّةً أخرى، فذهب إلى حيث عمّد يوحنّا أوّل الأمر، فأقام هناك. فأقبل إليه خلق كثير، وقالوا: "إنّ يوحنّا لم يآتِ بآية، ولكنّ كلّ ما قاله في هذا الرجل كان حقًّا". فآمن به هناك خلق كثير (يوحنّا 10: 40- 42).

            أمور عديدة تلفتنا في هذه الآيات الوجيزة التي تبدي، ببلاغة مقصودة، أنّ طيف يوحنّا المعمدان ما زال حاضرًا، هناك، في ذلك المدى الذي ظهر وعلّم فيه (وتاليًا في ضمير الناس الذين عرفوه).

            أوّل أمور هذه الآيات يعيدنا إلى ما دوّنه يوحنّا في مطلع إنجيله. قال: كان المعمدان يعمّد "في بيت عنيا عبر الأردنّ" (1: 28). ومن بعيد، رأى يسوع آتيًا نحوه، وقال فيه: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم" (1: 28). فـ:"مرّة أخرى" تردّنا، إذًا، إلى المرّة الأولى، وتفتح، في هذا الموقع المفصليّ، عيون القرّاء على اقتراب الساعة الحاسمة التي أنبأت بها كلمات المعمدان (موت الربّ على الصليب). في المرّة الأولى، كما في الثانية، يسوع هو الذي يتحرّك إلى الموقع الذي كان يوحنّا فيه. في الأولى، يتلقّى المعمدان إطلالة الربّ عليه مناسبةً، ليكمل شهادته فيه، وليدعو، في اليوم التالي، من موقعه ذاته، اثنين من تلاميذه إلى أن يتبعا يسوع. وفي الثانية، يتلقّى يسوع أناسًا كثيرين دفعتهم شهادة يوحنّا إلى أن يأتوا إليه. وهذا قيمته أنّه يشير إلى قوّة الشهادة الفاعلة في غياب قائلها. فكلمات يوحنّا، أي شهادته في المسيح، لا يقطعها السيف الذي قطع هامته، ولا سيوف الأرض كلّها! وإذا أخذنا عبارة "وأقام هناك"، فتبرز قيمة أخرى تدني شهادة يوحنّا (في الحَمَل) من مدى تحقيقها، وتدلّ، في آنٍ، على قبول الربّ الطوعيّ ما سوف يحدث له.

            الأمر الثاني، الذي تلفتنا إليه هذه الآيات، هو ما نسمعه يتردّد على ألسنة الناس هنا، أي قولهم إنّ المعمدان "لم يأتِ بآية". ويجب أن نلاحظ أنّ هذه العبارة قد قيلت في سياق تراجع ظاهر. فـ"ولكنّ كلّ ما قاله (المعمدان) في هذا الرجل (يسوع) كان حقًّا" يجب أن نراها تتضمّن الآية التي صنعها، أي نرى أنّ آيته الوحيدة هي شهادته ليسوع (راجع: يوحنّا 1: 19- 35، 3: 22- 30، 5: 33- 36). هل أراد الإنجيليّ، بنقله كلمات الناس، أن يبرز ما يعنيه هدف الآية؟ إذا اعتبرناه ينقل كلمات الناس ويخاطب قرّاءه في آن، أي، مثلاً، يسوق الكلمات كما لو أنّه يقابل بين يسوع ونبيّه (وهذا ممكن كثيرًا)، فعلينا أن نراه يدفع مَنْ تقع عيونهم على سطوره إلى الاعتراف بتفوّق يسوع الذي صنع آياتٍ كثيرة (فيما يوحنّا لم يأتِ بآية واحدة). ولكنّنا، من دون أن نهمل هذا الاعتبار، يجب أن نرى الإنجيليّ يدعونا إلى أن نقرّ في أنّ عظمة المعمدان تكمن في أنّ شهادته كان مضمونها أنّ أعلى عجيبة في الكون، أي أعلى عجيبة على الإطلاق، هو يسوع وحده، أو أن يأتي الناس إليه. يوحنّا المعمدان لم يصنع عجيبةً واحدةً بمعناها المألوف، هذا صحيح كلّيًّا، لكنّه خدم عجب الله في الأرض، أي أنّ شهادته الحيّة ما زالت تفعل، وتأتي بالناس إلى يسوع.

            ليس بعيدًا من هذا الأمر الثاني، ثمّة أمر منه. وهذا يبيّنه أنّ خلقًا كثيرًا آمنوا بيسوع. هل صدّقوا أنّه ابن الله حقًّا؟ في الحقيقة، هذا هو عمق الإيمان الذي يتردّد صداه في كلّ ما خطّه يوحنّا (أنظر مثلاً: 1: 34، 1: 49، 6: 69، 9: 35- 38، 10: 36، 11: 27، 20: 31). وهذا يجعل إقامة يسوع في عبر الأردنّ إقامة تجمع ما قَبْلَها إلى ما بعدها وتسقطهما، في آن، على مَنْ يقرأون عنها، أي تأتي بكلمات المعمدان الذي قال فيه إنّه "حمل الله"، لتمشي بالمؤمنين إلى مدى تحقيقها. فلقد قلنا، أعلاه، إنّ هذه الإقامة تفتح العيون على اقتراب الساعة التي سيصلب فيها ابن الله. وهذا كلّه يجب أن يعني لنا أنّ مَنْ آمنوا بأنّ يسوع هو ابن الله، أي أقاموا معه في عبر الأردنّ واعترفوا بأنّ ما قاله المعمدان فيه كان حقًّا، مدعوّون إلى أن يمشوا معه إلى صليبه، ليموتوا ويقوموا معه. وهذا هو عينه خطّ المعموديّة الذي تذكّر به الإقامة في عبر الأردنّ (3: 26). هل عمّد يسوع الذين آمنوا به، هناك، في عبر الأردنّ؟ ما من أمر يؤكّد ذلك (4: 1 و2). لكنّ معاني المعموديّة تبرز، بقوّة، في هذا الاعتراف الإيمانيّ الذي يلقى كماله في قبول المسيرة إلى الصليب.

            في هذه الآيات، يظهر يوحنّا حيًّا في كلماته الفاعلة. هذا أمر جرى في زمان ومكان معيّنين. ولكنّه يخاطب الحاضر، أي يخاطب جميع المؤمنين، أينما حلّوا أو نزلوا، ويحثّهم على اقتفاء آثار الحقّ الذي خدمه المعمدان في حياته ومماته. ماذا يهمّ الناس؟ يقول الإنجيليّ ماذا يجب أن يهمّهم. إن كانت العجائب تهمّهم وحدها، فيذكّرهم بأنّ ثمّة عجيبةً فريدةً ترسم هدف كلّ عجيبة طيّبة صُنعت في الأرض. وهذه، التي كشفها المعمدان وأخلص لها دائمًا، تكمن في أن نشهد ليسوع وحده. انتظروا، يقول يوحنّا في إنجيله، أيّها الناس، انتظروا. لا تسرعوا نحو كلّ صوت. هناك، في عبر الأردنّ، تردّدت، يومًا، كلمات قُطعت هامة قائلها بالسيف، وأتت بخلق كثير إلى يسوع. هل تعتبرون أنّ ثمّة آيةً تفوق دلالة هذه الآية؟ إن كنتم تعتبرون، فأعيدوا اعتباركم. اتّعظوا ممّا جرى. أحبّوا ما جرى. وامتهنوا بوح الحقّ. هذا بوح أقوى من الموت! اذكروا أنّكم، في معموديّتكم، قد متّم مع المسيح وقمتم معه، لتشهدوا لحياة الله فيكم دائمًا. هذه عجيبة كاملة. أحبّوا العجيبة الكاملة التي أهديتموها مجّانًا. إن فعلتم، تكونون قد فهمتم أنّ عبر الأردنّ هي بيوتكم أنتم وقراكم أنتم ومدنكم أنتم. هذه آية خلاصكم: أن تردّوا الناس إلى مسيحكم.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content